دعت "الحركة الدولية لعالم عادل" (International Movement for a Just World) و"معهد سانتي براتشا دهما" (Santi Pracha Dhamma Institute) نتيجة للموقف الحاسم في تايلاند الجنوبية، والتحديات في مناطق أخرى من جنوب شرق آسيا، إلى مؤتمر للحوار بين البوذية والإسلام في بينانج بماليزيا سنة ۱۹۹٦م تحت عنوان "السياسات البديلة لآسيا". وأكد المؤتمر على اللجوء إلى المعرفة التقليدية والقيم الروحية للديانتين لحل المشاكل المحلية.
وأنشأت حكومة تايلاند سنة ۲۰۰٤ م "لجنة الصلح الوطني" لتبحث عن مناهج القضاء على العنف الطائفي. وبالتالي عقدت تلك اللجنة بالتعاون مع "مركز جامعة ماهيدول لبحوث بناء السلام" (Mahidol University Research Centre for Peace Building) مؤتمرًا تحت عنوان: "الحوار بين البوذية والإسلام: العنف والصلح" في سالايا بتايلاند.
وكذلك عقدت "الشبكة الدولية للبوذيين المرتبطين" (International Network of Engaged Buddhists) بالتعاون مع "الحركة الدولية لعالم عادل" و"معهد سانتي براتشا دهما" مؤتمرًا تاليًا تحت عنوان "البوذيون والمسلمون في جنوب شرق آسيا: العمل نحو العدل والسلام" في بانكوك بتايلاند في يونيو سنة ۲۰۰٦ م. وقد خرج عن هذا المؤتمر "بيان دوسيت". وكان البيان عبارة عن دعوة لتعزيز التفاهم والوئام المجتمعي بين أتباع الديانتين، ونبذ القولبة النمطية والتحيز. واقترح البيان زيادة التعليم والطباعة ونشر المعلومات الإعلامية الإلكترونية؛ وذلك لتعزيز التفاهم والتوافق الطائفي بين الطائفتين المتدينتين، وتقوية دور رجال الدين ورجال السياسة بالسعي في سبيل إيجاد علاقات متوافقة.
وختم البيان بالنقاط التالية:
"إن القوة المسيطرة للرأسمالية العالمية لَديانةٌ جديدة تهدد باستئصال القيم الروحية والأخلاقية الجامعة، والنظرة العالمية المتضمنة في البوذية والإسلام والديانات الأخرى، ومن أجل ذلك فينبغي للمسلمين والآخرين أن يشكلوا وحدةً متأصلةً وتكافلاً؛ حتى يتمكنوا من تقديم رؤية أخرى للحضارة الإنسانية الشاملة العادلة الرحيمة العطوفة. والآن نعلن تأسيس لجنة دائمة للمواطنين البوذيين والمسلمين في جنوب شرق آسيا، وفي أذهاننا هذه المهمة نفسها".
لكن الدعوة إلى الأخلاقيات البديلة عن الرأسمالية العالمية تتعرض لخطر إثارة ما يسميه سيمويل هنتنغتن بصراع الحضارات. فمن أخطار مثل هذا الموقف أنه يزيد فعلاً من صعوبة الحوار مع الجماعات الأخرى، وبالتالي تركز الفرق الأخرى التي تهتم بالحوار بين البوذية والإسلام على منهج أشمل.
فعلى سبيل المثال، وردًّا على تدمير تماثيل بوذا بباميان شاركت "العائلة العالمية للحب والسلام" (The Global Family for Love and Peace) بالتعاون مع "متحف أديان العالم" (Museum of World Religions) تايبيه وتيوان في عقد سلسلة من الحوارات بين البوذية والإسلام بمنهج أشمل، فانعقدت المؤتمرات الثلاثة الأولى في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في مارس ۲۰۰۲ م، وفي كوالا لمبور بماليزيا في مايو ۲۰۰۲ م، وفي جاكرتا بإندونيسيا في يوليو ۲۰۰۲ م. ثم تبعها "مؤتمر الحوار البوذي-المسلم حول الأخلاقيات العالمية والحكم الرشيد" الذي انعقد في المركز الرئيسة لليونسكو في باريس بفرنسا في مايو ۲۰۰۳ م. وأقيمت ندوة حول موضوع "دهارما والله والحكم: حوار بين البوذية والإسلام" في يوليو ۲۰۰٤ م في بارسيلونا بأسبانيا ضمن مؤتمر "برلمان أديان العالم" (Parliament of World Religions)، ثم أقيمت في نوفمبر ۲۰۰٥ م "ندوة الحوار البوذي المسلم" في مراكش بالمملكة المغربية، والتي تلاها مؤتمر بوذي-مسلم بعنوان "تعاليم الأديان حول الحياة والموت" في بكين بالصين في أكتوبر ۲۰۰٦ م.
لقد وصلت الدعوة إلى التعاون السِّلْمي بين البوذية والإسلام والديانات الأخرى، وذلك بصياغة أخلاقيات عالمية شاملة لجميع الأديان، إلى أماكن أخرى، فمثلاً في ۱۹۹٦ م أسس دايساكو إيكيدا رئيس "سوكا جاكاي الدولية" (Soka Gakkai International) معهد تودا للسلام العالمي والسياسة"" (Toda Institute for Global Peace and Policy) في طوكيو باليابان وفي هونولولو وهاواي بالولايات المتحدة الأمريكية، ولقد موَّل المعهد العديد من المؤتمرات والمطبوعات مركِّزًا على إنشاء "الحضارة العالمية" التي تهدف إلى الحفاظ على الحياة الإنسانية كاملةً، وعلى وقاية البيئة، وعلى التنمية المتناسقة لجميع الجماعات الإنسانية. وإحدى هذه المطبوعات هي: "الحضارة العالمية: حوار بوذي-مسلم".
كذلك دعا صاحب القداسة الدالاي لاما الرابع عشر تَكرارًا أصحاب الديانات والملحدين على حد سواء إلى تحمل المسئولية الكاملة في إيجاد العالم السِّلْمي وإبقائه، بِناءً على الأخلاقيات العلمانية المشتركة بين الأديان والنظم الإنسانية، وتتأسَّس هذه الأخلاقيات الإنسانية على الإقرار بالقيم الإنسانية الأساسية؛ مثل: وجود أمنية السعادة، والتخلص من الشقاء لدى الجميع، وحق الجميع للفوز بالسعادة، وعدم تحمل المشاق على حد سواء.
ولقد شارك الدالاي لاما في ضوء هذه الدعوة في الكثير من الحوارات بين الديانات، وقد بدأت تلك الحوارات وخاصة التي تركز على العلاقات بين المسلمين والبوذيين في دارامسالا بالهند في مارس سنة ۱۹۹٥ بين الدالاي لاما وبين الدكتور تيرميزيو ديالو، الشيخ الوراث لإحدى الطرق الصوفية في غينيا بغرب أفريقيا، ودارت رحاها حول التسامح في البوذية والتصوف. وتشمل أحدث اللقاءات على "اجتماع القلوب المستنيرة بالرحمة" الذي عقد في سان فرانسيسكو وكاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في أبريل سنة ۲۰۰٦ م، و"مخاطر العولمة: هل الأديان تقدم حلاًّ للمشاكل، أم هي جزء من المشكلة نفسها؟" المنعقد في براغ بجمهورية التشيك في أكتوبر سنة ۲۰۰٦ م.
كما عقد الأكاديميون مؤتمرات عديدة حول قضايا المسلمين والبوذيين من أجل التوصل إلي تفاهم أفضل من خلال البحث التاريخي، وقد بدأت مشاركتي أنا في مثل هذه المحاولات التعاونية في مايو سنة ۱۹۹٤ م بلقاءات مع العلماء المسلمين في الجامعات في بشكيك بقرغيزستان وألماتي بكازاخستان، تبعتها مناقشات في إسطنبول بتركيا في فبراير سنة ۱۹۹٦ م. كان القصد من ورائها التحليل القائم على الموضوعية للتفاعل البوذي-المسلم في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، الذي يخلو من التصورات التي تقدم جانبًا واحدًا، وتؤكد على العنف وتدمير الأديرة فقط، واتسعت هذه المحادثات في نوفمبر سنة ۱۹۹٥ م بمزيد من اللقاءات في القاهرة بمصر ومفرق بالأردن ومرةً أخرى بإسطنبول، ثم اتسعت المحادثات أكثر من ذي قبل في أكتوبر سنة ۱۹۹٦م مع زيارات الجامعات ببشكيك وألماأتي والقاهرة ومفرق، وإسطنبول وقونية وكايسيري وأنقرة بتركيا. وقد ضمنت ما تعلمته من هذه المساهمات العلمية في كتابي الألكتروني: "التفاعل التاريخي بين الثقافتين: البوذية والإسلامية قبل الإمبراطورية المنغولية".
أما محاضرات جيرالد وائزفيلد حول الإسلام وحوار الأديان"" (Gerald Weisfeld Lectures on Islam and Interfaith Relation) المنعقدة حديثًا في جلاسجو بإسكتلندا في أكتوبر ونوفمبر سنة ۲۰۰٦ م فقد عرضت فيها بحوث تتعلق بموضوع "نظرة مسلمة إلى البوذية" و"نظرة بوذية إلى الإسلام". وعلى نفس المنوال طلب "معهد واربورغ" (Warburg Institute) مؤتمرًا أكاديميًّا في لندن بإنجلترا في نوفمبر سنة ۲۰۰٦ م حول "الإسلام والتبت: احتكاكات ثقافية". فيتضح من هذا أن كثيرًا من المعاهد في أنحاء العالم أدركت أهمية تنمية التفاهم بين أديان العالم والنظم العلمانية، بما فيها البوذية والإسلام.
إمكانيات الحوار في المستقبل
ظل مبحث إيجاد الأخلاقيات المشتركة التي تساعد على إيقاف تيارات العنف بين الجماعات الدينية والتأكيد عليها من بينأهم المبادئ التي يؤكد عليها الحوار البوذي-الإسلامي. ففي ضوء هذا الموضوع تكلم صاحب القداسة الدالاي لاما الرابع عشر في محاضرة عامة بعنوان "التسامح: مصدر السعادة" في ماديسون بويسكنسن في الولايات المتحدة الأمريكية في مايو سنة ۲۰۰۷ م عن موقف متطرف حيال الأخلاقيات يجب الحذر منه، يشتمل جانب واحد من هذا الموقف على اعتبار الأخلاق مِلْكًا خاصًّا لعقيدة دينية واحدة، بينما يدعي جانب آخر أن الشعب الذي يفقد عقيدة دينية معينة أو ديانة ما عمومًا يفقد الأخلاق كلها. وقد صرح صاحب القداسة أن بعض المسلمين بالأخص يعتنق هذه الفكرة، ثم وضح دعوته إلى "أخلاقيات علمانية مبينة على القيم الأساسية للإنسانية" شارحًا أن الأخلاقيات المقترحة لا تصدر عن الأخلاقيات المبنية على العقيدة الدينية ولا تهددها، بل إنها تحيط بالقيم المشتركة بين جميع الأديان والنظم الإنسانية؛ ذلك بأن البحث عن السعادة، والتخلص من المعاناة ينشآن من العوامل البيولوجية الموروثة، بغض النظر عن خلق الله للبيولوجية أو عدم خلقه لها.
وربما كانت توضيحات صاحب القداسة مبعوثة من رد فعل بعض الزعماء المسلمين على "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (Universal Declaration of Human Rights) الذي صدر عن الأمم المتحدة في ۱۹٤۸ م، ثم انتقدته كل من السودان وباكستان وإيران والمملكة العربية السعودية؛ لأنه لا يعتني بقيم الأديان والثقافات غير الغربية، فأدت انتقاداتهم إلى "إعلان القاهرة عن الحقوق الإنسانية في الإسلام" (Cairo Declaration on Human Rights in Islam) الذي تبناه وزراء ثمانية وأربعين بلدًا إسلاميًّا سنة ۱۹۹۰ م، وذلك أثناء "منظمة مؤتمر العالم الإسلامي" (Organization of the Islamic Conference). ولكن لا تقر هذه الوثيقة إلا بتلك الحقوق الإنسانية التي تنسجم مع الشريعة الإسلامية.
وبالتالي يجب على المسلمين والبوذيين أن يجتهدوا كثيرًا للتواصل فيما بينهم، ويبنوا على الأساس المشترك لتعاليمهم الأخلاقية لو كانوا يريدون التعاون على تنمية السلام، وتعميم العدل الاجتماعي، وليس في علاقاتهم الثنائية فحسب، بل في العالم أجمع. لقد أشارت "كالاتشاكرا تانترا" سابقًا إلى هذا الأساس المشترك بقولها: "تؤمن كلتا الديانتين بكون الفرد مسئولاً عن أعماله، ويؤمن أتباعهما بمبادئ أخلاقية صارمة".
من الجدير بالملاحظة أن النصوص الفلسفية البوذية المتقدمة تناقش بالتفصيل وجود الإله الخالق كما يؤمن به النظم العقائدية الهندوسية المتعددة، تكتفي كتابات كالاتشاكرا بذكر إيمان المسلمين بوجود خالق رحمن، ولا تعلق عليه. ولقد أدرك النص البوذي بعدم معالجته لمسألة وجود إله قدير أنه لم يكن ثمة فائدة لمناقشة السؤال التالي: هل يستمد النظام الأخلاقي الكوني من الإله أم لا؟ وبالرغم من تفسير البوذيين "لأديبوذا" في كالاتشاكرا كخالق الكون، وذلك من أجل مقتضيات كون البوذية ديانة رسمية بأندونيسيا، يبدو أن التحليل العميق للمسألة لا علاقة له اليوم بتعزيز التعاون بين الديانات في مواجهة العنف، مثلما كان في العصور التي ظهرت فيها كالاتشاكرا، فإن القضية مشحونة بشيء عظيم من نشاط عاطفي من الجانبين، وبالنسبة لكثير من أتباع الديانتين فالموضوع أكثر فلسفةً من أن يتعلق بحياتهم اليومية وتجاربهم.
ولكن الأمر الذي ربما يكون أوثق صلة بالحوار البوذي–المسلم العقائدي هو قضية الجهاد، وتعني كلمة "الجهاد" بالمفهوم الإسلامي الجهد الذي يتحمل الواحد فيه المشاق من أجل الله. وبالرغم من وجود عدة تقسيمات للجهاد فإن جمهور المسلمين يتفق على قسمين أساسيين: الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر.
الجهاد الأكبر هو جهد الفرد الداخلي الذي يبذله في أعماق قلبه ضد الأفكار والدوافع المضادة للتعاليم الإسلامية، أما الجهاد الأصغر فإنه الكفاح المسلح ضد التهديدات الخارجية للإسلام، وهو رد الفعل المعاكس لاضطهاد الفرد نفسه وأسرته وجماعته.
ويذهب العلماء المسلمون عدة مذاهب فيما يتعلق بأهمية أحد هذين القسمين، مع أنه لا يختلف اثنان في أن القرآن يسمح بالكفاح المسلَّح، ومع ذلك فإنه يمكن أن يكون الجهاد الأكبر موضوعًا عقائديًّا مثمرًا من وجهة نظر الحوار البوذي-المسلم، ومن أجل التعاون لتنمية السلام المحلي والعالمي. ويستشهد بعض المسلمين على أفضلية الجهاد الأكبر بالحديث الآتي:
(رجع بعض المجاهدين من سرية، فقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقال لهم: "قدمتم خير مقدم، فقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر." قالوا: "وما الجهاد الأكبر؟" قال: "مجاهدة العبد هواه!")
لقد عبر المعلم الهندي شانتيديفا في القرن الثامن عن رأي مماثل "الانخراط في سلوك بوديساتفا السلوكي" (في الفصل ٥ جزء ١٢) حيال سمو قدر شن حرب داخلية ضد المشاعر الداخلية المشوشة مثل الغضب:
"توجد الموجودات الظالمة في كل مكان كما يوجد الفضاء من المستحيل أن أكون قد قضيت عليها جميعًا ولكنني لو قضيت على روح هذا الغضب فكأنني قد قضيت على جميع الأعداء".
فمن وجهة نظر عقائدية تقف البوذية موقفًا جيدًا للحوار مع الإسلام عن قسمَي الجهاد؛ وذلك لأنه توجد في التعاليم البوذية أيضًا فكرة تماثل الجهاد الأصغر، وبالتالي فقد بيَّن صاحب القداسة الدالاي لاما الرابع عشر أنه عند فشل الوسائل السلمية غير العنيفة جميعًا يصبح من الواجب اللجوء إلى الوسائل العنيفة، ولكنه لابد أن يكون التحريض رحمة لضحايا العنف ومرتكبيه كليهما دون الغضب أو البغض، ولأن العنف عمومًا يولِّد مزيدًا من العنف، فالوسائل السلمية أفضل دائمًا.
إن التوسُّع في مدى الحوار البوذي-المسلم عن الجهاد ليحيط بإستراتيجيات معالجة قضايا البيئة قد يكون خصبًا أيضًا، فمثلاً وبالرغم من ضرورة المناهج الخارجية لمكافحة الاحتباس الحراري ولقلبه ومكافحة الانحطاط البيئي، فإننا نحتاج إلى المجاهدة الداخلية كثيرًا حتى نقهر الأنانية وما فيها من قصر نظر وجشع يزيدان المشكلة نارًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق