***************************************************


Logo Design by FlamingText.com
Logo Design by FlamingText.com

هذه هي آخر منتجات قمت بمشاهدتها Souqموقع الويب الخاص بـ:
في الأغلب، انتهى الأمر بالأشخاص الذين قاموا باستعراض هذه المنتجات إلى اختيار المنتجات التالية:

الأربعاء، 9 يناير 2013

حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها من القدم


حدود شبه جزيرة طور سيناء وأسمائها



 بلغة الشاعر قنطرة النيل إلى الأردن والفرات , وبلغة الناثر الوصلة البرية بين أفريقيا وآسيا , وبعبارة أخص هي تلك البادية الشهيرة التي تصل القطر المصري نفسه يقطري سوريا والحجاز . وقد أخذت شكل مثلث قعد على البحر المتوسط وانقلب على رأسه فدخل كالسفين في رأس البحر الأحمر وشطره شطرين هما خليج العقبة وخليج السويس .
  وشبه الجزيرة في الأصل هي البلاد الواقعة بين هذين الشطرين المعروفة الآه ببلاد الطور , ثم امتدت إداريا فشملت بلاد التيه ثم بلاد العريش في الشمال , فأصبح حدها من الشمال البحر المتوسط , ومن الغرب ترعة السويس وخليج السويس , ومن الجنوب البحر الأحمر , ومن الشرق خليج العقبة وخط يقرب من المستقيم يبدأ من رأس طابا على خليج العقبة وينتهي بنقطة على شاطئ البحر المتوسط عند رفح .
وسنسميها بعد الآن : جزيرة طور سيناء أو جزيرة سيناء أو الجزيرة أو سيناء طلبا للإختصار . أما نسبتها إلى طور سيناء , فلأن هذا الطور  ص9
هو أشهر جبالها , وأما سيناء فلغة " الحجر " قيل سميت البلاد سيناء لكثرة جبالها , وقيل أن اسم سيناء مأخوذ من سين بمعنى القمر في العبرانية فسميت البلاد سيناء لأن أهلها كانوا قديما يعبدون القمر , قلت بل يكفي لنسبتها إلى القمر حسن الليالي المقمرة فيها فإن صفاء جوها ورقة هوائها وسعة أرضها تجعل قمرها أبدع الأقمار .
  وقد عرفت سيناء في الآثار المصرية باسم " توشويت " أي أرض الجدب والعراء . وعرفت في الآثار الأشورية باسم " مجان " ولعله تحريف مدين وهو الاسم الذي أطلقه مؤرخو العرب على شمال الحجاز وجنوبي فلسطين وهي البلاد التي عرفت عند مؤرخي اليونان باسم " أرابيا بترا " أي العربية الصخرية .
  هذا وقد عرفت في التوراة باسم حوريب أي الخراب كما عرفت باسم سيناء , قال بعض علماء التوراة أن اسم حوريب أطلق على البلاد جملة واسم سيناء على أشهر جبل فيها , ثم نسي اسم حوريب وسائر الأسماء القديمة ولم يبق إلى يومنا هذا إلا اسم سيناء .
  ولقد كانت سيناء في أكثر العصور التاريخية ملحقة بمصر مع أن سكانها كانوا منذ بدء التاريخ ولا يزالون من أصل سامي كسكان سوريا , وهي في هذا العهد محافظة من محافظات القطر المصري كما سيجئ تفصيلا
أما البحر المتوسط الذي يحد سيناء من الشمال فطول شاطئه من بورسعيد إلى رفح نحو مئة وثلاثين ميلا وطوله على خط مستقيم نحو مئة ميل , وهو شاطئ رملي معرض للرياح الشمالية الغربية التي تشتد في غالب الأحيان حتى يستحيل على السفن الاقتراب منه لشدة هياج الأمواج , وليس في هذا الشاطئ ما يصلح لأن يكون ميناء للسفن إلا خليجا صخريا صغيرا بين مدينة العريش والشيخ زويد يدعى جرف الحصين عند بئر المصيدة فإنه إذا اعتني به صلح لأن يكون ميناء للسفن الصغيرة .
  هذا ويدخل من البحر المتوسط في بر سيناء بين العريش والطينة بحيرة عظيمة تعرف " ببحيرة بردويل " سيأتي ذكرها .  ص10
وأما ترعة السويس التي تحد سيناء الشمالية من العرب فهي الترعة التي تصل البحر الأحمر رأسا بالبحر المتوسط , تمتد من مدينة السويس فتخترق البحيرة المرة فبحيرة التمساح فبحيرة البلاح , ثم تحاذي بحيرة المنزلة من الشرق إلى أن تصل البحر المتوسط عند بورسعيد , وطول هذه الترعة 160 كيلو مترا , وعرضها تسعة أمتار وخمسون سنتيمترا , وأكبر البواخر التي يسمح لها بالملاحة فيها الآن لا تتطلب من العمق أكثر من ثمانية أمتار و53 سنتيمترا , ولكنهم آخذون في توسيعها وتعميقها حتى تصلح لمسير أكبر البواخر .
  وللترعة ثلاثة جسور " كباري " متحركة يعبر بها إلى جزيرة سيناء : أحدها شمالي السويس والثاني عند الاسماعيلية والثالث عند القنطرة في طريق العريش .
  ولقد كان وصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط أمنية كل ملك عظيم قام على مصر  ص11
منذ أيام الفراعنة , وكان أول من حقق هذه الأمنية رعمسيس الثاني سنة 1330 ق . م فإنه وسط النيل ومد ترعة من فرع النيل البليوسي عند تل بسطة إلى السويس طولها نحو 200 كيلومتر وعرضها من مئة إلى مئتي قدم , ثم ردمت فجددها داريوس ملك الفرس ثم ردمت وجددها البطالسة , ولما افتتح العرب المسلمون مصر على يد عمرو بن العاص كانت مردومة فاستأذن ابن العاص الخليفة عمر بن الخطاب وجدد حفرها فجعل مبدأها مصر العتيقة وأتمها بسنة , وبقيت إلى زمن أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين فوصل إليه الخبر بأن خرج عليه محمد بن عبد الله من سلالة علي بن أبي طالب بالمدينة المنورة فكتب إلى عامله على مصر يأمره بسد هذه الترعة حتى لا تحمل المؤونة من مصر إلى المدينة فسدها وما زالت كذلك إلى اليوم .
  ولكن لم يتم وصل البحرين رأسا بدون توسط النيل إلا في عهد اسماعيل باشا الخديوي الأسبق وذلك بهمة المسيو ده لسبس المهندس الفرنساوي الشهير فإنه نال الإذن بفتحها من سعيد باشا سنة 1856م وألف شركة مساهمة فدبر ما تحتاج إليه من المال وأنشأها على رغم ما اعترضه من الموانع السياسية والإدارية القوية , وقد بلغت نفقات حفرها وتوسيعها 24 مليون جنية . واحتفل بافتتاحها في 17 نوفمبر سنة 1869م 12 شعبان سنة 1286هـ احتفالا بلغ منتهى الأبهة وقد حضره بعض ملوك أوربا ونواب جميع الدول .
  وهذه الترعة من أعظم الأعمال التي باشرها الإنسان منذ قام العالم لأنها ربطت الشرق بالغرب وسهلت التجارة في آسيا وأفريقيا وأوربا أعظم تسهيل .
  هذا وقبيل فتح هذه الترعة كان المسافرون إلى الهند من الإسكندرية يركبون ترعة المحمودية بالمراكب تجرها الرفاصات إلى العطف 44 ميلا , ثم يركبون النيل فرع رشيد بالبواخر إلى القاهرة 120 ميلا , ومن هناك يركبون مركبات الأمنيبوس تجرها الخيل في الصحراء إلى السويس 84 ميلا . وقد قصرت هذه الطريق طريق الهند أسابيع . وكان الفضل في إنشائها إلى " اللفتننت توماس واغورن " من ضباط البحرية الانكليز , توفي في يناير سنة 1850 عن 49 عاما ولم يكافأ على عمله هذا إلا بعد  ص12
وفاته فقد نصب تمثالا في بلدته شاتام من أعمال كنت بانكلترا سنة 1888 وكانت شركة " القنال " قد نصبت له تمثالا نصفنا عند مدخل القنال في بورت توفيق بالسويس كما نصبت لسبس تمثالا كاملا عند مدخل القنال في بورسعيد .
  هذا وقد كان لمرور تجارة الهند وبريدها بمصر نفع عظيم لمصر وسوريا معا ففتح هذه الترعة سد النفع في وجهها وحوله إلى أوربا , وكان الانكليز أكبر المستفيدين من فتحها مع أنهم كانوا أكبر المعارضين لها في أول الأمر لأن سياستهم كانت تقضي ببقاء طريق الهند على رأس الرجاء , ففي سنة 1911 مر بالترعة 4969 باخرة تحمل 18124794 طنا فكان 3089 باخرة منها للانكليز والباقي لسائر الدول , وكانت الحكومة الانكليزية قد اشترت أسهم خديوي مصر في 25 نوفمبر سنة 1875 في وزارة اللورد بيكو نسفيلد بأربعة ملايين جنيها فبلغت قيمتها في 31 مارس سنة 1911 سبعة وثلاثين مليونا ونصف مليو جنيه , وكانت أرباح هذه الأسهم في العام المنصرم " 1913 " 1316185 جنيها .  ص13
  هذا وفي الاتفاق الدولي الذي أمضي في 29 أكتوبر سنة 1888 تقرر أن يكون حق المرور بالترعة شائعا لجميع الدول فتمخر فيها بواخرها المسلحة وغير المسلحة في زمن الحرب أو في زمن السلم .
  ويديرها الآن مجلس عام مؤلف من 32 عضوا من جميع الدول المساهمة فيها وفيهم عشرة من الانكليز بينهم ثلاثة ينوبون عن الحكومة الانكليزية .
  ومدة امتياز الترعة 99 عاما من تاريخ افتتاحها , وشروط الحكومة المصرية مع الشركة تقضي بخروج الأسهم كلها من أيدي المساهمين ودخولها في حوزة مصر عند انتهاء هذه المدة أي سنة 1868 . وجميع أسهم الترعة الآن للأجانب فليس للحكومة المصرية أو للمصريين سهما واحدا منها . ففي سنة 1909 اقترحت الشركة على الحكومة المصرية أن تطيل الامتياز أربعين سنة فتدفع لها الشركة أربعة ملايين جنيه مع نصيب قليل من الأرباح . وقد قصدت الشركة بذلك رفع أسهمها وإطالة أمد أرباحها بإشراك مصر في شئ من الأرباح , فعرضت الحكومة الاقتراح على الجمعية العمومية وقيدت نفسها بقبول رأي الجمعية كيفما كان, فرفضت الجمعية الاقتراح بأغلبية عظيمة بحجة أنه مجحف بحقوق مصر , قالوا يكفي الذي خسرته تجارة مصر بفتح هذه الترعة وإنه ليس لمصر الآن سهم واحد من أسهمها فلا نطيل أجل خسارتنا بيدنا أربعين سنة أخرى , قالوا ذلك وهم آملون دخول الترعة في حوزة مصر عند انتهاء مدة الامتياز .
  ولكن الذين دافعوا عن الاقتراح قالوا إن مصر لو قبلته أفادت الشركة بإطالة مدة امتيازها واستفادت هي مورد مال جديد ليس لها غير هذا السبيل إلى وروده , لأن ترعة كترعة السويس تربط الشرق بالغرب وتشترك فيها مصالح الدول كلها لا تترك لرحمة مصر والمصريين يتحكمون فيها كما يشاؤون , وقد كان رسم المرور بالترعة أولا عشرة فرنكات على الطن الواحد فخفض تدريجيا حتى بلغ الآن ستة فرنكات وخمسة وسبعين سنتيما , وقد وعد المسيو ده لسبس سنة 1883 بأن يكون الحد الأدنى لرسم المرور خمسة فرنكات فلا بد من خفضه إلى هذا الحد  ص14
به خصوصا بعد فتح ترعة بناما , بل ربما خفض إلى أدنى من هذا الحد حتى إذا ما انتهت مدة امتياز الترعة جعلوها حرة ولم يسمحوا بأخذ رسم مرور بها إلا بقدر ما يكفي للمحافظة عليها فإذا صح هذا القول ولم يكن لمصر إذ ذاك ما للشركة الآن من القوة لتمشية الرسم الذي توجبه كان رفض الاقتراح موجبا للأسف الشديد   
أما خليج السويس الي يحد سيناء الجنوبية من الغرب فطوله من السويس إلى رأس محمد نحو 150 ميلا وعرضه من عشرة أميال إلى ثمانية عشر ميلا . وأشهر موانيه على شاطئ سيناء مبتدئا من الشمال :
  " ميناء عيون موسى " على ثمانية أميال من السويس وفيه محجر صحي قديم
  " ميناء ملعب " على نحو خمسين ميلا من ميناء عيون موسى وقد اتخذته حكومة مصر محجرا للحجاج بضع سنين ثم وجدته عرضة للرياح الشديدة فنقلت المحجر منه إلى مدينة الطور .
  " مينا أبو زنيمة " على نحو اثني عشر ميلا من ميناء ملعب سمي كذلك باسم شيخ يزار هناك يعرف بهذا الاسم . وقد كان في عهد الفراعنة ميناء معدني الفيروز في سرابيت الخادم , وفي هذا العهد ميناء معدني المنغنيس في وادي بعبعة .
  وبين هذا الميناء وسرابيت الخادم يومان بسير القوافل : تذهب الطريق من الميناء بوادي الطيبة فوادي الحمر فرملة القري فوادي بعبعة فوادي سوق  فالسرابيت .
  وقد قرر مجلس الصحة والكورنتينات في جلسة 6 يناير 1914 إنشاء محلة جديدة للحجر الصحي في هذا الميناء .
  " ميناء أبو رديس " على نحو عشرة أميال من ميناء أبو زنيمة وهو ميناء معدني الفيروز في وادي المغارة منذ عهد الفراعنة إلى اليوم . وبينه وبين وادي المغارة 15 ميلا بوادي البدرة .
  " ميناء الطور " على نحو خمسة وخمسين ميلا ون أبو رديس ومئة وخمسة وثلاثين ميلا من السويس بشاطئ البحر ومئة وخمسة وعشرين ميلا بطريق البواخر . وهو أشهر مواني سيناء وأقدمها وسيأتي ذكره في الكلام على مدينة الطور  ص15
  " ميناء راية " على نحو خمسة أميال من الطور وهو ميناء حسن وله بئر عذبة المياه وآثار تدل على أنه كان مأهولا في القديم . وهناك قبر شيخ يزار يعرف باسمه .
  " ميناء جار " على نحو سبعة أميال من راية , وهنا أيضا قبر شيخ يزار يعرف بهذا الاسم .
أما خليج العقبة الذي يحد سيناء الجنوبية من الشرق فطوله من رأس محمد إلى قلعة العقبة نحو مئة ميل وعرضه من سبعة أميال إلى أربعة عشر ميلا . وفيه ثلاث جزر :
  " جزيرة تيران " عند قاعدته تجاه رأس محمد بينهما مضيق حرج لمرور المراكب .
  " جزيرة سنافر " شرقيها وكلتاهما قفر بلقع .
  " جزيرة فرعون " عند رأس الخليج على ثمانية أميال من مدينة العقبة بحرا . وهي جزيرة صغيرة محيطها نحو ألف متر مؤلفة من اكمتين صغيرتين بينهما فرجة ضيقة وبينها وبين بر سينا نحو 250 مترا , وهي داخلة في حد سينا . وعلى قمتي الأكمتين قلعة قديمة لم يبق منها سوى صهاريج الماء ومخازن الغلال والذخائر ومنازل العساكر , وفي جدرانها المزاغل لضرب النار , ولذلك تعرف  ص16
عند البدو بالقلعة أو المقليعة أو القرية , وهي الآن خراب لا ساكن فيها , وكان يحيط بها سور منيع له باب إلى جهة سيناء , وقد ذكر بعض السياح الافرنج ِأنه مر بالجزيرة في أواسط القرن الغابر فرأى حجرا فوق الباب عليه اسم باني القلعة وتاريخ بنائها ولكن هذا الباب قد تهدم الآن وتهدم السور إلى الأرض إلا أن ما يبدو من أساسه يدل على متانته . وقد فتشت عن الحجر التاريخي المشار إليه في الجزيرة كلها فلم أقف له على أثر , ولكن عثر بعضهم بين خرائب القلعة على قطع من العملة النحاسية القديمة .
  وقد ظن بعض السياح أنها عصيون جابر المذكورة في التوراة بقرب أيلة ولكن خرائب قلعتها الحاضرة تدل على أنها أحدث جدا من ذلك العهد , والأرجح أنها من بناء صلاح الدين الأيوبي وإنه بناها لمقاومة الصليبيين وهي تشبه في بنائها قلعة لصلاح الدين في جوار عين سدر كما سيجئ , ويقال أن أرنولد ده شنتليون حصرها بالمراكب سنة 1182م , ثم هجرت بعد ذلك بمئة سنة واكتفي بقلعة العقبة .
  وأما " رأس محمد " فهو تل صغير في رأس مثلث سيناء علوه نحو 120 مترا . وعلى نحو 20 ميلا منه شمالا رأس النصراني " وأشهر موانئ هذا الخليج على شاطئ سيناء :
  " ميناء الشرم " بين رأس محمد ورأس النصراني . على نحو ثمانية أميال من الأول واثني عشر ميلا من الثاني , وفي هذا الميناء قبر شيخ يزار يعرف بهذا الاسم .
  " ميناء النبك " على نحو عشرين ميلا من ميناء الشرم وهو أقرب فضة إلى بر الحجاز وتجاهه في ذلك البر ميناء الشيخ حميد بينهما سبعة أميال أو حواليها . ينتابه الآن تجار الإبل والغنم وأكثرهم من عرب الحويطات المصريين فيأتون بالإبل والغنم من بر الحجاز إلى النبك ثم يخترقون برية سيناء إلى السويس , وسيأتب ذكر هذه الطريق تفصيلا , وفي النبك آبار عذبة الماء وبستان نخيل , قيل وهناك خرائب دير بني في صدر النصرانية , وقربه خرائب قرية صغيرة أقدم منه .
  " ميناء ذهب " على نحو خمسة وعشرين ميلا من النبك وفي عرض شمالي 28' 28 وهناك آبار ماء عذبة قديمة العهد وثلاث جنان من النخيل , قيل وهناك أيضا خرائب دير قديم , وإن القدماء عدنوا الذهب في جواره ومن ذلك اسمه  ص17
  " ميناء نويبع " على نحو ثلاثين ميلا من ميناء ذهب وفيه آبار ماء وحديقة متسعة من النخيل وطابية صغيرة بنتها السردارية المصرية سنة 1893م وجعلت فيه نغرا قليلا من البوليس الهجانة وألحقتها إداريا بمركز نخل .
  وفي خليج العقبة المد والجزر كما في خليج السويس , وقد راقبناهما مدة إقامتنا في رأس خليج العقبة سنة 1906 فكان الفرق بينهما ست أقدام .
وأما الخط الشرقي الذي جعل الحد بين سيناء من جهة وولاية الحجاز ومتصرفية القدس من جهة أخرى فقد عين بالتدقيق في الاتفاق الذي عقد بين الحكومة الخديوية المصرية وبين الدولة العلية سنة 1906 كما سيجئ تفصيلا , ولم يعين حد سيناء الشرقي من قبل بمثل هذا التدقيق في عصر من العصور ولكن يستدل من مراجعة تاريخ مصر وسوريا ومن التقاليد المحفوظة عند أهل الحدود ِإلى هذا اليوم أن رفح كانت في أكثر العصور الحد بين مصر وسوريا على البحر المتوسط وأيلة المعروفة الآن بالعقبة الحد بين مصر والحجاز على رأس خليج العقبة , وإليك البيان : ص 18
  " حد رفح " أما رفح فقد جرت فيها عدة وقائع حربية بين ملوك مصر وملوك آسيا كأن ملوك مصر كانوا يقفون عند رفح للذب عن حدهم . من ذلك مجئ سباقون ملك مصر إلى رفح سنة 715ق.م لصد الأشوريين عن بلاد مصر ومجئ بطليموس الرابع ملك مصر سنة 317ق.م لرد انطونيوس الكبير ملك سوريا عن مصر كما سترى في باب التاريخ .
وفي أخبار فتح عمرو بن العاص لمصر سنة 18هـ 639م : أن عمر بن الخطاب ألحقه بكتاب وهو في الطريق ففضه عمرو في العريش وتلاه على أصحابه وهو : " ... أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها وأما إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئا من أرضها فامض واعلم أني ممدك . فالتفت عمرو إلى من حوله وقال أين نحن ياقوم فقالوا في العريش فقال وهل هي من أرض مصر أم الشام فأجابوا أنها من مصر وقد مررنا بعمدان رفح أمس المساء فقال هلموا بنا إذا قياما بأمر الله وأمير المؤمنين .
  والظاهر أن حد مصر كان في زمن اليعقوبي الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة وابن الفقيه الهمذاني الذي عاش في القرن الرابع للهجرة في مكان يقال له " الشجرتين " قرب رفح : قال اليعقوبي في كتاب البلدان " ... ومن خرج من فلسطين مغربا يريد مصر خرج من الرملة ,, إلى مدينة غزة .. ثم إلى رفح وهي آخر أعمال الشام ثم إلى موضع يقال له " الشجرتين " وهي أول حد مصر ثم إلى العريش وهي أول مسالح مصر وأعمالها .. "وقال الهمذاني : وطول مصر من الشجرتين اللتين بين رفح والعريش إلى أسوان وعرضها من برقة إلى أيلة وهي مسيرة أربعين ليلة في أربعين ليلة " .
  وفي تقويم البلدان لأبي الفداء الذي توفي سنة 723هـ 1323م " حد ديار مصر الشمالي بحرا بحر الروم من رفح العريش ممتدا على الجفار إلى الفرما إلى الطينة إلى دمياط إلى ساحل رشيد إلى الاسكندرية وبرقة , والحد الغربي مما بين الاسكندرية وبرقة على الساحل أخذا جنوبا إلى ظهر الواحات إلى حدود  ص19
النوبة , والحد الجنوبي من حدود النوبة المذكورة آخذا شرقا إلى أسوان إلى بحر القلزم . والحد الشرقي من بحر القلزم المذكور قبالة أسوان إلى عيذاب إلى القصير إلى القلزم " السويس " إلى تيه بني إسرائيل ثم ينعطف شمالا إلى بحر الروم إلى رفح العريش حيث ابتدأنا " .
  وجاء في تاريخ مصر الحديث بالفرنساوية للموسيو " أمادي ريم " عند ذكره زحف نابليون على سوريا بطريق العريش ما ترجمته :
  " فاستأنف الجيش الشير في 24 فبراير سنة 1799م , وفي الطريق حيا العمد المشيدة في الصحراء لتعيين الحد بين أفريقيا وآسيا حتى وصل خان يونس " اه
وهو يعني عمد رفح لأنه ليس في الطريق قبل خان يونس عمد غيرها .
  وجاء في أسفار المستر " وليم وتمن " الذي رافق الحملة العثمانية إلى العريش سنة 1801 ما ترجمته : " وفي 29 مارس سنة 1801 خرجنا من خان يونس قاصدين العريش وبعد مسيرة نحو ساعتين وصلنا الحدود التي تفصل آسيا عن أفريقيا وهناك استرحنا قليلا عند بئر ثم واصلنا السير فمررنا بين عمودين من الغرانيت المصري قيل أنهما أقيما هناك لتعيين الحد بين القارتين " اه . وهو يعني بئر رفح وعمودي الحدود
  وفي سنة 1869م نشر محمد قدري بك كتابا في تاريخ مصر وجغرافيتها , ثم نشر محمد أمين فكري بك جغرافيته ينة 1897م . فأثبتا حد مصر عن أبي الفداء والمشهوران إسماعيل باشا الخديوي الأسبق زار رفح في أوائل ملكه فرأى عمودين من الغرانيت قائمين تحت سدرة قديمة ومعروفين أنهما الحد بين مصر وسوريا فأقر ذلك .
  وزار عباس باشا حلمي الثاني خديوي مصر الحالي عمودي رفح سنة 1898م فأمر فنقش على العمود الذي إلى جهة مصر تاريخ زيارته للحدود كما سيجئ . ولما ذهبت إلى الحود سنة 1906 صرح لي بدو تلك الجهات أنهم منذ نشأتهم يرون هذين العمودين ويعلمون أنهما الحد بين مصر وسوريا وأنهم ورثوا هذا علم عن الآباء والأجداد . ولعل ما أوجب أن تكون رفح الحد بين مصر وسوريا موقعها الطبيعي فهناك يقل المطر وينتهي الخصب ويبدأ رمل الجفار الذي يمتد إلى الدلتا . ص20
وأما أيلة فقد جاء في كتاب أحسن التقاويم في معرفة الأقاليم لشمس الدين المقدسي المعروف بالبشاري الذي عاش سنة 375هـ 958م : " وفي أيلة تنازع بين الشاميين والمصريين والحجازيين وإضافتها إلى الشام أصوب لأن رسومهم وأرطالهم شامية " . وحسبها الهمزاني آخر حد مصر من جهة الغرب كما مر . واستولى الصليبيون على إيلة فخرج صلاح الدين الأيوبي من مصر سنة 665هـ 1266م فاسترجعها منهم وجعل فيها حامية من رجاله . وما زالت عساكر مصر تحمي ايلة ثم العقبة خليفتها إلى أن تسلمتها الدولة العلية من مصر سنة 1892م كما سيجئ . وقال أبو الفداء في الكلام عن ايلة : " وهي في زماننا برج وبه وال من مصر " . وذكرها المقريزي الذي عاش في القرن التاسع للهجرة فقال : " وايلة أول حد الحجاز .. وكانت حد مملكة الروم في الزمن الغابر " . وقال صاحب كتاب درر الفرائد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة الذي زار مكة بطريق ايلة سنة 955هـ 1548م : " وايلة آخر حد مصر وأول الحجاز " .
  وخلاصة ما تقدم أن التاريخ يدل على أن رفح أو شجرتين في ضواحيها هي أول حد مصر الشرقي من جهة البحر المتوسط وايلة المعروفة الآن بالعقبة كانت تعتبر تارة في الحجاز وتارة في مصر ولكنها كانت في أغلب الأحيان تابعة لمصر , أما اللجنة التي تدبت لتعيين الحدود سنة 1906 فقد أبقت على رفح الحد بين مصر وسوريا ولكنها ألحقت أيلة بالحجاز وجعلت رأس وادي طابا قرب جزيرة فرعون الحد بين الحجاز وسينا كما سيجئ مفصلا .
  هذا وطول الخط الفاصل من رأس طابا إلى رفح نحو 150 ميلا فيكون محيط شبه جزيرة سينا نحو 630 ميلا كما يأتي :
  130 ميلا البحر المتوسط من رفح إلى بورسعيد بطريق الشاطئ
  100 ميلا ترعة السويس
  150 خليج السويس
  100 خليج العقبة
  150 الخط الفاصل الشرقي
ــــــــــــــــ
  630 ميلا المجموع  ص21
وطول الجزيرة من البحر المتوسط إلى رأس محمد نحو 230 ميلا . وعرضها من السويس إلى رأس طابا نحو 150 ميلا . ومساحتها بوجه التقريب 25 ألف ميل مربع .

بيان أن التوحيد سبق الشرك:


لم توجد أمة من الأمم إلا وكان لها دين تدين به، وعبادة تلتزم بها، كما تقدم بأن الأديان نوعان: دين التوحيد وهو سماوي، وأديان وضعية شركية، وقد زعم الملحدون: أن الشرك كان أسبق في الوجود على الأرض من التوحيد، وهو قول مبني على إنكارهم للخالق جل وعلا، وزعمهم أن الإنسان إنما وجد من الطبيعة حيث كان أميبا، ثم تطور بفعل الرطوبة حتى وصل بعد أزمان عديدة إلى صورة القرد، ثم تطور فصار القرد إنساناً، فزعموا أن هذا الإنسان- وكان في ذلك الوقت في طور الطفولة البشرية- أخذ يبحث عن إله يعبده، فتوجه إلى عبادة الآباء والأجداد، والأشجار، والحيوانات الضخمة، والشمس، والقمر، إلى غير ذلك من الأشياء التي يستعظمها في نفسه، ثم بدأ هذا الإنسان يتطور في عقله وأحاسيسه، فبدأ يتخلى عن كثير من الآلهة التي كان يعبدها حتى توصل في عهد الفراعنة إلى التوحيد، ولا يعني ذلك عندهم عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما عبادة إله واحد وهو) رع (في زعمهم الذي يرمز له بقرص الشمس، ظاهر من هذا القول أن أصحابه يزعمون أن الأديان من صنع البشر وليست من قبل الله عز وجل،
والعجيب أن يوافقهم على هذا القول بعض المنتسبين للإسلام كالعقاد في كتابه (الله جل جلاله) وعبد الكريم الخطيب في كتابه (قضية الألوهية بين الفلسفة والدين) وقد زعم أصحاب هذا القول أن لهم عليه دليلين:
أولا: القياس على الصناعة، فكما أن الإنسان قد تطور في صناعته، فهو كذلك تطور في ديانته.
ثانياً: أن حفريات الآثار دلتهم على أن الناس وقعوا في الشرك وتعدد الآلهة، وأن الإنسان عرف التوحيد متأخراً.
وهذا في الواقع قياس فاسد، واستدلال باطل، فقولهم: إن الدين كالصناعة. قياس مع الفارق؛ لعدة أمور:
أولاً: أن الصناعات شيء مادي، والأديان شيء معنوي، فكيف يقاس شيء معنوي غير محسوس على شيء مادي محسوس، فهو كمن يقيس الهواء على الماء.
ثانيا: أن الصناعة تقوم على التجربة والملاحظة، وتظهر النتائج بعد استكمال مقوماتها، بخلاف الدين الذي لا يقوم على ذلك ........ ،
ثالثا: يلزم من هذا القياس أن يكون الإنسان في هذا الزمن صادق التدين خالص التوحيد؛ لأن الصناعة قد بلغت مبلغاً عاليا من التطور، والواقع خلاف ذلك فإن الإنسان أحط ما يكون من الناحية الدينية؛ إذ إن الإلحاد متفشٍّ في أكثر بقاع العالم، كما يلزم منه أن لا يوجد شرك في هذا الزمن، والواقع خلاف ذلك، حيث الشرك متفشٍّ في الشرق والغرب.
أما زعمهم الاستدلال على قولهم بالآثار ومخلفات الأمم السابقة، فيقال: إن هذه الآثار ناقصة، فلا دلالة فيها على ما ذكروا سوى التخمين ومحاولة الربط بين أمور متباعدة، وغاية ما تدل عليه الحفريات والآثار أن الأمم السابقة وقعت في الشرك، وهذا لا ننكره بل القرآن والسنة نصَّا على ذلك وبيناه، أما عبادة الإنسان الأول وعقيدته فلا يمكن معرفتها من خلال الآثار حتى يعثروا على الإنسان الأول ويجدوا آثاراً تدل على عقيدته وعبادته. ثم إن من المؤكد أن الأمم تتقلب في عباداتها، فتنتقل من التوحيد إلى الشرك، ومن الشرك إلى التوحيد، فمثلاً أهل مكة كانوا على التوحيد دين إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، ثم وقعوا في الشرك، ثم عادوا إلى التوحيد بدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فمعرفة عبادة أمة من الأمم لا يعني أنها لم تعرف سوى تلك العبادة، بل ذلك يعني أنها كانت على تلك العبادة في تلك الفترة فقط. وبهذا يظهر جليا واضحاً فساد هذا القول، وأن ما استدلوا به ليس إلا تخرصات وتوهمات، لا تقوم في وجه الحق الواضح البين وهو:
أن الإنسان أول ما عرف التوحيد، ثم بدأ بالانحراف فتدرج في ذلك حتى وقع في الشرك، وذلك لأن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبيًّا يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد، إلى أن وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان- وهذا يقر به ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالإسلام أو باليهودية والنصرانية إلا من تابع قول الملحدين منهم. ومن الأدلة- زيادة على هذا- قوله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213] قال ابن عباس رضي الله عنه، فيما روى عنه ابن جرير بسنده: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين). (1) ويؤيد هذا قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كَانَ النَّاسُ أُمَّة وَاحِدَة (فَاخْتَلَفُوا) فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ ... الآية. ويؤيده أيضا قوله عز وجل في سورة يونس: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ [يونس: 19].فهذا ينص على أن بني آدم عبدوا الله عز وجل فترة من الزمن وهي عشرة قرون، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه، ثم إنهم انحرفوا عن هذا النهج القويم فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد. وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنه بيَّن لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عنه أنه قال في معنى قول الله تعالى: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23]، قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت) (2). فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل، ولا يعني استدلالنا هذا أن هذا الأمر لم يثبت إلا عن طريق الوحي - وإن كان كافياً في هذا - بل إن هذا القول أثبته علماء في الآثار وباحثون في الأديان من الغربيين وغيرهم.
يقول الباحث) آدمسون هيوبل (المتخصص في دراسة الملل البدائية:) د مضى ذلك العهد الذي كان يتهم الرجل القديم بأنه غير قادر على التفكير فيما يتعلق بالذات المقدسة أوفي الله العظيم، ولقد أخطأ) تيلور (حيث جعل التفكير الديني الموحد نتيجة للتقدم الحضاري والسمو المعرفي، وجعل ذلك نتيجة لتطور بدأ من عبادة الأرواح والأشباح ثم التعدد ثم أخيراً العثور على فكرة التوحيد (.
ويقول الباحث (اندري لانج) من علماء القرن الماضي: (إن الناس في أستراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي، وقد أكد هذا الرأي العالم الأسترالي (وليم سميث) حيث ذكر في كتابه (أسس فكرة التوحيد) مجموعة من البراهين والأدلة جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أن أول تعبد مارسه الإنسان كان تجاه الله الواحد العظيم).
_________
(1) ((جامع البيان في تأويل القرآن)) (4/ 275)، ورواه الحاكم (2/ 480) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) رواه البخاري (4920)
ويقول الدكتور الحاج (أورانج كاي) من علماء الملايو في إندونيسيا (: عندنا في بلاد أرخبيل الملايو دليل أكيد على أن أهل ديارنا هذه كانوا يعبدون الله الواحد، وذلك قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الديار، وقبل أن تدخل النصرانية، وفي عقيدة جزيرة كلمنتان بإندونيسيا لوثة من الهندوسية ورائحة من الإسلام، مع أن التوحيد كعبادة لأهل هذه الديار كان هو الأصل قبل وصول الهندوسية أو الإسلام إليها، وإذا رجعنا إلى اللغة الدارجة لأهل هذه الديار قبل استخدام اللغة السانسكريتية أو قبل هجرة الهندوسية أو دخول الإسلام تأكدنا من أن التصور الاعتقادي لأجدادنا حسب النطق والتعبير الموروث هو أن الله في عقيدتهم واحد لاشريك له).O دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 34
الدين الإلهي وعقيدة التوحيد الخالصة هما الأصل في حياة البشر منذ أن خلق الله آدم (وذريته) بخلاف ما تدعيه النظريات المادية والفلسفية السائدة التي تزعم أن البشرية في أول أمرها كانت لا تعرف التوحيد، وأن الناس كانوا يعبدون ما حولهم من المخلوقات التي كانوا يروجونها أو يخافونها فهذا باطل ومحض افتراء، إنما يقوم على تخرصات الخراصين وظنون الجاهلين، إنما عبدت الأوثان بعد أزمان حيث كثر الخبث، وحاد أكثر البشر عن الله وشرعه القويم.
خلق الله الناس حنفاء موحدين:
فقد ثبت بالقرآن الكريم وصحيح السنة والآثار أن الله تعالى خلق الناس حنفاء موحدين مخلصين لله الدين، وفطرهم على التوحيد، وأن الشرك والضلال والانحراف إنما هو شيء طارئ حدث بعد أحقاب من الزمان، ولم تخل أمة ولا زمان على طول التاريخ البشري من دين ورسل وأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويحذرون من الشرك.
قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24]
وقال تعالى: رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165].
وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ [يونس: 47].
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].كما ثبت في صحيح السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يرويه عن ربه تبارك وتعالى، وفيه: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)). رواه مسلم (1).
بطلان نظرية تطور الدين:
إذن فقد عرفت يقينا أن التوحيد والصلاح هما الأصل الذي كانت عليه البشرية في أول وجودها، وأن الشرك والفساد والضلال أمور طارئة بما كسبت أيدي الناس.
وبعد هذا فلا تغتر بما يقوله بعض الكتّاب المحدثين والمفكرين، وكثير من علماء الاجتماع والتربية وعلم النفس والتاريخ من أن الناس في أول أمرهم على الجهل والوثنية والهمجية، ثم تطوروا إلى التوحيد، فالقائلون بهذا مقلدون للنظريات الغربية المادية التي لا تستند على دليل علمي ولا وحي سماوي.
O الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: د. ناصر العقل ود. ناصر القفاري – ص14
_________
(1) رواه مسلم (2856) بلفظ) ( .... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم .... )) من حديث عياض بن حمار المجاشعى.

ماهو باعث التدين عند الانسان


قال الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً [النحل:36].
وقال عز وجل أيضا: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
قال ابن كثير- رحمه الله- عند الآية الأولى: (وبعث في كل أمة أي: من كل قرن وطائفة رسولاً ... ثم قال: ( ... فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح عليه السلام).
فهذا فيه دلالة واضحة على أن البشر ما أنفكوا عن رسل يدعونهم إلى الله، ويشرعون لهم الشرائع التي يتعبدون الله بها، كلما أندرست معالم التوحيد، وانطمست أنواره في نفوسهم. وذلك يعني أن التجمعات البشرية لم تخل من دين تدين به وتضبط كثيراً من نواحي حياتها وفْقَه، وهذا ما أكده أيضاً علم الآثار والبحوث الاجتماعية في التجمعات البشرية، إذ يصرح كثير من ذوي هذه الاختصاصات: (أن الجماعات البشرية القديمة والحديثة، المتحضرة وغير المتحضرة كان لها دين تدين به.
قال هنرى برجسون: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غيرعلوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد جماعة بغير ديانة).
فهذه الدلالات المؤكدة، والحقيقة التي لا تقبل الجدل في أن النزعة الدينية متعمقة في الإنسان ومغروزة فيه، تجعل الباحث والناظر في ذلك يتساءل عن الباعث على هذا التدين ما هو؟ مع أن الدين ليس من الماديات، ولا من الشهوات التي تتعلق بها النفوس، بل الدين له تبعات ولوازم تجعل الإنسان في كثير من الأحيان يبذل دمه من أجله، فضلا عن ماله ووقته وعواطفه، ويتحكم الدين في كثير من تصرفات الإنسان وعلاقاته، فلهذا كثر في بيان الباعث على التدين القيل والقال، والاستنتاجات، والتخمينات.
وإليك بعض هذه الأقوال وهي كلها لغير المسلمين:
قال بعضهم: إن الدافع إلى التدين الخوف من الطبيعة حوله بما فيها من برق، ورعد، وزلازل، وبراكين، وحيوانات متوحشة، جعلت الإنسان في الأزمان القديمة- وهو الضعيف الذي لا حول له ولا طول مع هذه الأحوال المتغيرة حوله- يبحث عن قوة غيبية لها سيطرة وتأثير في هذه الطبيعة حوله، ولها قدرة على حمايته وحفظه، فأله وعبد ما يرى أنه أقوى وأقدر على حمايته من المخلوقات التي حوله كالشمس والقمر والبحر ونحو ذلك.
وقال بعضهم وهو (ماكس موللر): (إن العقل هو الباعث على التدين، وذلك أن العقل ميزة الإنسان عن الحيوان، وهو باعث على النظر والتفكر في هذه المخلوقات، والإعجاب بها، وتعظيمها، ومن هنا أخذ العقل يفكر فيما وراء الطبيعة، وأداه عقله مع اللغة المستخدمة في الحديث عن الجمادات إلى صبغها بصبغة الأحياء ذوات الأرواح، مما جعله يتعبد لها ويتخذها إلها (.
وهناك قول ثالث في الباعث قال به) دوركايم (الفرنسي، وهو: أن الحاجة الاجتماعية هي الباعث على التدين، وذلك أن المجتمعات البشرية تحتاج إلى نظم وقوانين تحفظ الحقوق وتصون الحرمات، ويؤدي كل إنسان واجبه بمراقبة داخلية، مما جعل بعض الأفذاذ وذوي القيادة يتولد في أذهانهم الدين، ويبثونه في جماعتهم، فتقبله الجماعة لحاجتها لذلك.
هذه الأقوال يظهر منها واضحاً ادعاء أن الدين مصدره الإنسان، وأن باعثه أمر من الأمور المتعلقة بالطبيعة حول الإنسان، أو دوافع داخلية في الإنسان.
ولا تحتاج هذه الأقوال إلى كثير عناء في إبطالها وردها؛ إذ إن هذه البواعث المذكورة كثيراً ما تكون غير موجودة، ومع ذلك يكون التدين ظاهراً واضحاً يصدم دعاة الإلحاد ويهدم تخرصاتهم. ولا يعدو ما ذكر هنا من باعث التدين أن يكون تخرصا وفرضاً باطلاً؛ إذ إن الحديث عن باعث التدين يحتاج إلى سبر أغوار النفس البشرية، ودراسة تاريخية متعمقة، تشمل الإنسان الأول، وتسير معه سيراً متأنياً، كاشفة عن مشاعره وأحاسيسه وتقلباتها حسب الظروف والأحوال التي تحيط به؛ إذ إن الدين له أوقات يظهر بها ويتضح جليًّا في حياة الإنسان، وهي أوقات الأزمات والمخاوف التي يقع فيها الإنسان، كما أن له أوقاتاً يكمن فيها ولا يظهر، وهي أوقات الرخاء والغنى، إذ يقع الإنسان فيها فريسة سهلة للغفلة والبعد عن الدين. كما أن الباحث يجب أن يكون في حال بحثه خاليا من المؤثرات البيئية والدينية والثقافية، وذلك من أجل أن يكون حكمه على الظواهر التي يقع عليها سليما من المؤثرات الخارجية، وأنَّى للباحث أن يتخلص من ذلك.
فهذه الأمور تجعل الوصول إلى باعث التدين الحقيقي من الصعوبة والعسر بما لا يتمكن منه الإنسان. ونحن- المسلمين- نعتقد أن الباعث على التدين: هو الفطرة، ونعتمد في ذلك على الوحي الإلهي والنور الرباني، فإن القرآن والسنة نصَّا على أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق والعبودية له والبراءة من الشرك، يدل على ذلك قول الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30].
وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173]. فهذه الآية تشهد للآية قبلها، وتبين أن الله جعل ذلك في فطر بني آدم، وأنه أخرجهم من أصلاب آبائهم وأخذ عليهم بذلك العهد والميثاق، فقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك)) (1).وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا قال: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان - يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذرِّ، ثم كلمهم قبلا قال: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172])) (2).ومن الأدلة الدالة على أن الإنسان مفطور على الدين الحق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء)) (3).وحديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... )) الحديث (4).
فهذه الأدلة صريحة في بيان أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق، والعبودية له، وهذا هو التدين وذلك باعثه - ومن أصدق من الله حديثا- كما دلت هذه الأدلة أيضاً على أمرين:
أحدهما: أن هذه الفطرة والإقرار بالخالق إلهاً وربًّا، قابلة للتأثر والتغير والانحراف بفعل مؤثرات خارجية، ولذلك نعتقد بأن السبب في وجود الوثنيات السابقة في الأمم البائدة، واللاحقة في الأمم القديمة والحاضرة، هو هذه المؤثرات التي وردت في هذه النصوص.
ثانيهما: أن المؤثرات التي تؤدي إلى انحراف الفطرة عن وجهتها الصحيحة على ضوء هذه الأدلة ثلاثة وهي:
1 - الشياطين: وهي المؤثر الخارجي الأصلي والأول في هذا الأمر، كما دل على ذلك حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه المتقدم.
_________
(1) رواه البخاري (3334) , ومسلم (2805).
(2) رواه أحمد (1/ 272) (2455) , والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 347) (11191) , والحاكم (2/ 593) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 189): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/ 83): إسناده جيد قوي على شرط مسلم, وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (2/ 370): إسناده لا مطعن فيه, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1701).
(3) رواه البخاري (1385) , ومسلم (2658).
(4) رواه مسلم (2865).
2 - الأبوان، ويقوم المجتمع بدور الأبوين في حال فقدهما، وهذا المؤثر هو أقوى المؤثرات، وأخطرها؛ لشدة التصاق الأولاد بآبائهم وقوة تأثيرهم عليهم، وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، وقد قدمت الشياطين على الآباء؛ لأن الشياطين هي المؤثر الخارجي الأول في انحراف الآباء أنفسهم.
3 - الغفلة: وهي المؤثر الثالث في انحراف هذه الفطرة، كما دلت على ذلك آية سورة الأعراف.
ولسائل أن يسأل: ما هي فائدة الفطرة وهي على هذه الحال من الضعف، حيث تتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي تؤدي إلى انحرافها، ولا يكاد الإنسان ينفك عن واحد من هذه المؤثرات والصوارف، أو كلها؟
والجواب عن ذلك أن يقال: إن حكمة الله اقتضت جعل الفطرة بهذه الحال؛ ليتحقق الغرض من ابتلاء الإنسان بالخير والشر، ومن ثم جزاؤه على عمله؛ إذ لو كانت الفطرة قوية لا تتأثر بشيء لما وقع الكفر والانحراف في بني آدم، بل صاروا غير قابلين للكفر، فلا يتحقق الابتلاء، ولله الحكمة البالغة.
ومع ذلك فإن لهذه الفطرة فوائد عديدة منها:
أولاً: أن هذه الفطرة غرزت في النفس البشرية التدين والتعبد لله تعالى، فإذا لم يهتد الإنسان إلى الله عز وجل فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر؛ ليشبع في ذلك نهمته إلى التدين، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثاً ليسد به جوعته.
وهذا ما يفسر لنا وجود التدين عند عموم البشر، وقد يكون الدين والمعبود في كثير من الأحيان باطلاً.
ثانياً: أن هذه الفطرة جعلت في جبلة الإنسان قبول العبودية والانسجام مع لوازمها، وهذا من الأمور المهمة للإنسان، لأن كل ما لا يتفق مع الفطرة فإن النفس تنفر منه ولا تستجيب لمتطلباته.
ثالثاً: أن هذه الفطرة مرجحة للحق، فإذا تعرف الإنسان على دينين حق وباطل، فإن الفطرة تميز بينهما وتميل إلى الحق، بل يقع ذلك في قرارة النفس ويتيقن القلب منه، فإما أن يعلن ذلك ويلتزم به، أو لا يستجيب له بسبب هوى، أو خوف، أو إلف وتقليد ونحو ذلك من الصوارف عن الحق. كما قال عز وجل عن فرعون وقومه وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14].
رابعاً: أن هذه الفطرة تهب للمهتدي يقينا بالحق الذي هو عليه، وإن لم يكن عنده من الأدلة النظرية ما يهبه هذا اليقين، وهذا يفسر لنا - والله أعلم- عدم ترك المسلم لدينه رغبة عنه، وما ذلك إلا لتناسبه مع فطرته، فيعطيه ذلك يقينا بأنه الحق، وكذلك من اهتدى إلى الإسلام من ذوي الأديان الأخرى الباطلة، فإنه يتمسك به تمسك الغريق بحبل النجاة، وما ذلك إلا لتيقنه من أن هذا الدين هو الحق؛ لتناسبه وانسجامه مع الفطرة. والله أعلم.
Oدراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 26

علم الأديان في القرآن الكريم وكتابة المسلمين فيه:



القرآن الكريم كتاب أنزله الله عز وجل لهداية البشرية جمعاء وهو خاتم الكتب السماوية، وهو كتاب دعوة وهداية، لهذا ذكر الله عز وجل فيه أديان الناس السابقة والمتزامنة مع نزوله، لأن ذلك وسيلة من وسائل دعوة أصحاب الأديان، فإن عرض ما هم عليه من الباطل وبيان أوجه بطلانه مع عرض الحق والتركيز على مميزاته، وأوجه رجحانه، كل ذلك مما ينير الأذهان التي غلفها التقليد، والجهل، والهوى، ويفتح أمامها آفاق المعرفة السليمة من أجل المقارنة والموازنة ثم الإيمان عن اقتناع ويقين.
وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجد أنه حوى من ذلك الشيء الكثير، فمن ذلك أن الله عز وجل قد حصر الأديان التي عليها الناس في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج: 17].
فأديان البشر لا تخرج عن واحد من هذه، وهي: الإسلام، واليهودية، والصابئة، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية.
كما ذكر الله عز وجل الأنبياء عليهم السلام وأبان أن دعوتهم كانت واحدة، وهي الدعوة إلى التوحيد، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وقال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وأن دينهم واحد وهو الإسلام، قال عز وجل عن نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ [البقرة: 128].
وقال عن نبيه إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 131 - 132] وقال عز وجل: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [يونس: 84]
وقال عز وجل: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52].
كما ذكر الله عز وجل مجادلة الأنبياء لأقوامهم، وإقامتهم للحجة عليهم من أوجه عديدة.
وذكر الأديان التي يدين بها الناس، فذكر الديانة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وذلك في آيات عديدة أيضا، ومن المثال على ذلك: قوله عز وجل: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه: 11 - 16].
وذكر الله عز وجل انحراف بني إسرائيل وكفرهم وتحريفهم لكلام الله في آيات عديدة، منها قوله عز وجل: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78].
وقال عز وجل: وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [المائدة: 62].
وذكر الله عز وجل النصارى وعقائدهم وانحرافاتهم في آيات عديدة، منها قوله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 72]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة: 73].
كما ذكر أقوالاً أخرى عديدة لهم في المسيح وأمه وذكر ادعاءهم صلبه، وأبان عن الحق في كل ذلك.
وإضافة إلى أقوال أصحاب الديانات ذكر الله عز وجل أيضاً أصول بعض تلك المقالات المنحرفة، فمن ذلك قوله عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30].
فبين سبحانه أن هذه المقالة اقتبسها اليهود والنصارى من الكفار قبلهم، وهذا أمر ثابت واضح لكل من نظر في الأديان السابقة على اليهودية والنصرانية، فإنه سيجد ادعاء الولد لله- تعالى الله عن ذلك - منتشراً لدى الكفار من الفراعنة واليونان والرومان وغيرهم.
كما ذكر الله عز وجل المشركين الوثنيين فذكر عباداتهم وآلهتهم في مثل قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: 19 - 20].
وقال عز وجل: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ [الصافات:125].
كما ذكر حججهم مجملة ومفصلة، فمن المجملة قوله عز وجل: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [إبراهيم:9 - 10].
ومن حجج المشركين المفصلة وجدالهم لأنبيائهم عليهم السلام قوله عز وجل: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَما أناْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى ما أنهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَما أنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. [هود: 84 - 93].
كما عقد جل وعلا المقارنات العديدة بين الحق والباطل ليفسح المجال أمام العقل للمقارنة والموازنة، من ذلك قوله عز وجل: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39].
وقوله عز وجل: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إلى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ. [الأعراف: 191 - 196].
كما ذكر الله عز وجل الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق، وينكرون بالتالي الأديان حيث ذكر إمامهم فرعون في مواطن كثيرة، منها قوله عز وجل: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] بل بين سبحانه أن فرعون هو إمام الإلحاد، وذلك في قوله عز وجل: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:41 - 42].
فبين سبحانه أن فرعون وأتباعه هم أئمة الدعاة إلى النار، ولاشك أن أعظم الدعاة إلى النار هم الفلاسفة الملاحدة والمؤلهة منهم، وهذا خلاف ما هو مشتهر لدى كثير من الناس من عزو الفلسفة والإلحاد إلى فلاسفة اليونان، فإن الصحيح أن الفراعنة كانوا هم أئمة اليونان في هذا، فقد أخذ اليونان فلسفتهم الوثنية عنهم، وكل من نظر في أساطير اليونان وفلسفتهم وكذلك أساطير الرومان الذين ورثوا ذلك عن اليونان، ثم نظر في أساطير وفلسفة الفراعنة قبلهم علم أن هذه الأقوال بعضها من بعض، وإن كان اليونان قد توسعوا في ذلك وانتشرت عنهم تلك الأقوال فنسبت إليهم.
قال د. محمد دراز: (لم يبق الآن مجال للشك في أن القدامى من علماء اليونان وفلاسفتهم تخرجوا في مدرسة الحضارات الشرقية، والحضارة المصرية بوجه أخص. وليس معنى هذا أن الإغريق (اليونان) كانوا بمثابة أوعية مصمتة نقلت علوم الشرق ومعارفه نقلاً حرفيًّا، فذلك ما لا يستسيغه عقل، ولم يقم عليه دليل من صحيح النقل، ولكن المعنى أنهم لم ينشئوا هذه العلوم إنشاءً على غير مثال سابق، كما ظنه بعضهم، بل وجدوا مادتها في الشرق فاقتبسوا منها وأفادوا كثيراً. وإن قدماء اليونان أنفسهم يذهبون إلى الاعتراف بهذه التلمذة إلى القول بأن عظماءهم أمثال (فيثاغورس) و (أفلاطون) مدينون بأرقى نظرياتهم إلى المدرسة المصرية، والناقدون المحدثون وإن استبعدوا حصول نقل حرفي لهذه النظريات، لم يسعهم إلا التسليم بتبعية هؤلاء الفلاسفة في الدين والأخلاق، للنظريات المصرية).
كما أمر الله عز وجل بمجادلة أهل الكتاب لإزالة شبههم وإقامة الحجة عليهم وذلك بالحسنى، كما قال عز وجل: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46].
كما حكم الله عز وجل في هذا القرآن بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه من القضايا الدينية إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76].
فبرَّأ الله عز وجل فيه سليمان عليه السلام مما اتهمه به اليهود من الكفر، وأثبت له النبوة التي كانوا ينكرونها، كما برَّأ مريم رضي الله عنها مما اتهمها به اليهود، وأبان عن حصانتها وعفتها وطهارتها، وبرأ ابنها مما نبزه به اليهود من الكفر والضلال، كما برأه مما ادعاه فيه النصارى من الألوهية والبنوة، ورد على اليهود والنصارى دعوى صلبه، وأخبر أنه أنجاه منهم ورفعه إليه.
فهذه المعلومات الغزيرة والمتنوعة عن الأديان التي وردت في القرآن الكريم، تدل دلالة واضحة على عظيم أهمية هذا العلم في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، فتنبه لذلك علماء المسلمين فكتبوا، في الأديان قاصدين بذلك الدعوة إلى الله من خلال ذلك فكان من أوائل من كتب في ذلك:
علي بن ربن الطبري في كتابيه (الرد على النصارى) وكتاب (الدين والدولة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم).
والجاحظ في كتابه: (الرد على النصارى)، والأشعري في كتابه (الفصول في الرد على الملحدين)، والمسعودي في كتابه (المقالات في أصول الديانات)، والبيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)، وابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، والشهرستاني في كتابه (الملل والنحل)، والقرافي في كتابه (الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وغيرها كثير أرسى به المسلمون قواعد هذا العلم حيث أوردوا عقائد أصحاب الديانات وعباداتهم، ونقلوا ذلك عن كتبهم ومصادرهم المعتبرة لديهم، وناقشوهم فيها وأبانوا عن بطلان أقوالهم وأقاموا الحجة عليهم بالأدلة النقلية والعقلية، وسلكوا في ذلك منهجاً دعويًّا متأسين بذلك بالقرآن الكريم.
وقد سبق المسلمون في هذا المضمار الغربيين الذين لم يعتنوا بهذا العلم إلا في العصور المتأخرة بعد ما يسمى بعصر النهضة في القرنين 15، 16م؛ لأن النصارى بعد عصر النهضة وابتداء عصر الاستعمار أخذوا يرسلون البعوث من رجال دينهم إلى الشرق الأدنى والأقصى؛ للاطلاع على ديانات الناس والتعرف عليها والكتابة فيها، وتلك البعوث لم تكن في الواقع إلا طلائع الاستعمار، ومن الأشياء الجديدة التي استطاع الغربيون إضافتها إلى هذا العلم، البحث في الديانات القديمة، وساعدهم على ذلك التنقيب عن الآثار، وتعلم اللغات القديمة، فأفادوا في هذا الباب معرفة ديانات الأقوام القديمة التي اندثرت، فأكملوا بذلك ما كان بدأه المسلمون، مع أن المسلمين يتميزون عن الغربيين أن بين أيديهم مرجعاً عظيماً قد حوى في هذا الباب علماً جمًّا ذا دلالات مفيدة نافعة لهداية الإنسان ومصلحته الدينية، ذلك هو الوحي الإلهي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهو مصدر علمي معصوم من الخطأ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيعصم العقل البشري من البحث في علوم لا تعود بفائدة على الإنسان في دينه أو دنياه، كالبحث في أديان أقوام غبرت واندثرت من أهل الشرق والغرب، كما يعطيه المعلومات الصحيحة عن أمور لا يمكن للبشر التوصل إليها والقطع فيها بالحق إلا بالعلم الإلهي، كما في بحثهم في نشأة التدين وباعثه - كما سيأتي- فإن البحث في ذلك كثير منه هو من باب التخرص إذ لم يستند إلى الوحي الإلهي.
Oدراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص 15

مدونة التاريخ ناصر شلبي