كان المؤسس الأول للدولة العلوية محمد بن الشريف الحسني [ت 1075 هـ 1664] رجل سياسة وفكر، بايعه أهل سجلماسة واستولى على فاس ومدن الصحراء واتخذ سجلماسة مقرا له .
وكذلك المولى إسماعيل بن محمد [1056-1139هـ/ 1645- 1727م ] الذي كانت أيامه من أزهى أيام الدولة العلوية ، وقد دانت له ربوع المغرب كلها، واتسعت دولته حتى بلغت تخوم السودان. وكذلك المولى الرشيد بن محمد [1040- 1082هـ / 1630- 1672 م] الذي فتح تازة وأخضع سجلماسة وامتلك فاس ودخل مراكش وأخضع بلاد السوس وأرسل جيشا لضم طنجة، واستقر بمراكش وكان كثير الفتوحات محبا للعلم والعلماء. وكذلك المولى عبد الرحمن بن هشام [1204- 1276هـ/1790- 1859م] الذي أنشأ الأساطيل لحماية الشواطئ واهتم بنشر العلم وبترقية الزراعة والصناعة .وما إلى ذلك. وكذلك المولى محمد بن عبد الله بن إسماعيل [1134- 1204هـ/ 1721- 1790م] الذي كانت له فتوحات بحرية كثيرة، وبنى مدنا ومساجد ومدارس وأنشأ المراكب البحرية وأنفق الأموال الطائلة على فكاك أسرى المسلمين من أيدي الإفرنج. وكذلك بطل التحرير محمد الخامس طيب الله ثراه الذي اجتمعت حوله كل القوى الوطنية [1927- 1961م] وقاد البلاد إلى الاستقلال الذي أعلن عنه في مارس سنة 1956. وكذلك فقيد العروبة والإسلام موحد البلاد وباني السدود الحسن الثاني [1961- 1999م] الذي خلص البلاد من بقايا الاستعمار وتظم المسيرة الخضراء سنة 1975 م .هؤلاء الملوك وغيرهم خدموا الدين والوطن والأمة، وكانوا على مستوى من الحنكة السياسية فكانوا بحق من المخلدين في ذاكرة التاريخ، فعرفت في ظلهم المملكة المغربية تطورا وازدهارا وأمنا وسلاما وذلك بتشبثهم وتمسكهم بثوابت ومقومات دينهم الحنيف.
المولى على الشريف (مؤسس الدولة العلوية ﴾
هو المولى علي بن الحسن بن عبد الله، المعروف بالشريف، ومنه تفرعت فروع المحمديين، وكان مولده سنة 997هـ/1589م، ومن أولاده الذين تولوا الملك من العلويين نجد محمد والرشيد والمولى إسماعيل، وقد تولوا الملك على هذا الترتيب .
عرف بالصلاح والتقوى، وكان مجاب الدعوة، كثير الأوقاف والصدقات، قسم أوقاته بين الحج والجهاد بإفريقيا والأندلس .
وقد رحل إلى فاس وأقام بها مدة يدرس، ثم حج وعاد إلى سجلماسة ليقيم بقرية تسمى جرس على مرحلتين ونصف من سجلماسة، ثم خرج إلى الأندلس للجهاد، ثم عاد إلى سجلماسة فكتب إليه أهل الأندلس يطلبون إليه العودة، فعاد إليهم وشارك في الجهاد .
عرض عليه الأندلسيون الخلافة لكنه أبى ورفض ورعًا وزهدًا. قال الزياني في ذلك : " وممن عظم العلم، واكتفى به عن الملك، وزهد فيه، مولاي علي الشريف جد الأشراف العلويين، فإنه كان يتوجه للغزو بجزيرة الأندلس المرة بعد المرة، واشتهر علمه، وظهر فضله، وراوده أهل الأندلس على ملكها، فزهد فيه وقال: "يكفيني قصب العلم ".
وقال اليفرني:" وقد وقفت على رسائل عديدة بعث بها إليه علماء غرناطة يحضونه على الجواز إليهم واستنفار المجاهدين إلى حماية بيضتهم ويذكرون له أن كافة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خالص أموالهم دون توظيف سلطان عليهم أموالا كثيرة برسم الغزاة الذين يردون معه من المغرب، وحلوه في بعض تلك الرسائل بما نصه: "إلى الهمام الضرغام قطب دائرة فرسان الإسلام الشجاع المقدام، الهصور الفاتك، الوقور الناسك، طليعة جيش الجهاد، وعين أعيان النجاد، المؤيد بالفتح في هذه البلاد، المسارع إلى مرضاة رب العباد، مولانا أبي الحسن علي الشريف" . وكتبوا مع ذلك إلى علماء فاس يلتمسون منهم أن يحضوا المولى عليا على العبور إلى العدوة فكتب إليه أعلام فاس بمثل ذلك وحثوه على المسارعة إلى إغاثتهم، وذكروا له فضل الجهاد وأنه من أفضل أعمال البر، فقالوا له في بعض تلك الرسائل: "وعوضوا هذه الوجهة الحجية التي اجتمع رأيكم عليها، وتوفر عزمكم لديها بالعبور إلى الجهاد، فإن الجهاد، أصلحكم الله في حق أهل المغرب، أفضل من الحج كما أفتى به الإمام ابن رشد حين سئل عن ذلك، وقد بسط الكلام عليه في أجوبته ووجه ما ذهب إليه من ذلك .
وكان ممن كتب إليه من علماء غرناطة جماعة منهم: الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراج شيخ المواق وقاضي الجماعة بها. ومن شيوخ فاس الذين كتبوا إليه: الفقيه أبو عبد الله العكرمي شيخ شيوخ الإمام ابن غازي، وأبو العباس أحمد بن محمد بن ماواس، وأبو زيد عبد الرحمن الرقعي صاحب الرجز المشهور وغيرهم .
لقد ضرب المولى علي الشريف أروع الأمثال في التضحية ونكران الذات، في سبيل تحقيق تلك الأهداف المشتركة للمغاربة والأسرة العلويةالشريفة، التي ظلت على امتداد ثلاثة قرون ونصف القرن، القاسم المشترك الذي جعلهما بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا، وذلك بتطوعه للجهاد، لإنقاذ الإسلام من مخالب الكنيسة الصليبية، بطلب من علماء المغرب والأندلس الذين راسلوه في الموضوع شعرا ونثرا
وهكذا كان المولى علي الشريف مشهورا في عصره، متقدما على كافة أهل مصره، وأنه كان ملحوظا بالإجلال عندهم والإكبار .
المولى رشيد (موحد الوطن ﴾
يعتبر مولاي رشيد بن علي الشريف المؤسس الحقيقي لدولة الأشراف العلويين. وتروي المصادر التاريخية أن هذه الشخصية تميزت بذكاء وبعد نظر، وحب للعلم والعلماء. فعرف المغرب في عهده وحدة ورخاء وازدهارا بعد فترة طويلة من التفرق والحروب الأهلية فما أن تولى الحكم حتى بدأ في مشروعه الإصلاحي، حيث ركز في البداية على تدعيم أركان سلطته واستكمال الوحدة الترابية للمغرب .
وهكذا فتح سجلماسة –التي بايعت محمد الصغير بن محمد الأول- ودخلها سنة 1079هـ وأصلح أمرها، وأعاد تنظيمها إداريا وعسكريا .
ثم فتح فاس سنة 1076هـ حيث تمت مبايعته، فأكرم العلماء والطلبة الذين أعجبوا بشخصيته العربية وتشبثه بالتقاليد الإسلامية. ثم قضى تباعا على الدلائيين والشبانيين والسملاليين.
بسط المولى رشيد سلطانه على المغرب كله من الساحل الشمالي على السوس. وقد حرص على القضاء على القوة العسكرية السوسية. ومن فاس خرج المولى رشيد لزيارة الشيخ أبي يعزى، ثم قصد سلا فزار صلحاءها، واستطاع أن يخمد كل حركة قامت ضده في السوس أو مراكش أو تافيلالت أو فاس .
وهكذا في وقت قياسي، لا يتجاوز سبع سنوات، حقق المولى الرشيد الوحدة الوطنية المنشودة، بعد التمزق الذي عانى منه المغرب أزيد من ستين سنة، على يد الزعامات الطائفية المتناحرة. كما حارب مختلف الزوايا وشيوخ الطرق الصوفية الذين كان لهم موقف عدائي تجاه قيام الدولةالعلوية .
بعدما استتب له الأمر، ووحد أطراف البلاد، ركز مجهوداته على استكمال الوحدة الترابية وتحرير الأجزاء التي كانت في يد المحتل، فحرر طنجة التي كانت في يد الأنجليز سنة 1082هـ، بعد أن حصن الرباط وسلا بقلعتين عظيمتين حيث قضى على الوجود الإنجليزي بالشمال، كما عمل على تنشيط الجهاد البحري .
ورغم حذره من الدول الأجنبية فقد شرع في العمل على مد جسور التعاون التجاري معها. وعرف المغرب على أيامه الاستقرار والرخاء والازدهار الاقتصادي. وضرب العملة الرشيدية سنة 1081هـ كما اهتم بالعمران، فبنى قنطرة وادي سبو سنة 1080هـ .
ولكنه توفي في عز شبابه وعطائه، وفي أوج انتصاراته ومجده السياسي والعسكري، إذ جمح به فرسه، فارتطم رأسه بشجرة فتهشم ومات لحينه بمراكش سنة 1082 هـ/1672 ودفن بها، ثم نقل جثمانه إلى ضريح سيدي علي بن حرزهم بفاس، حسب وصيته، وقال وهو يحتضر" سبحانك يا من لا يزال ملكه، عبد الرشيد زال ملكه ".
سيدي محمد بن عبد الله (1171-1204هـ/1757-1790): رائد الدولة المغربية الحديثة
وازدحم على بيعته أهل مراكش وقبائل الحوز، وقدمت عليه وفود السوس وحاحة بهداياهم، ثم قدم عليه العبيد والودايا وأهل فاس من العلماء والأشراف وسائر الأعيان وقبائل العرب والبربر والجبال وأهل الثغور، كل ببيعته وهديته، لم يتخلف عنه أحد من أهل المغرب فجلس للوفود إلى أن فرغ من شأنهم وأجازهم، وزاد العبيد بأن أعطاهم خيلا كثيرا وسلاحا عرفوا به محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين مغتبطين .
بويع سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل بمراكش سنة 1171هـ، قال السلاوي : " ثم جاءت بيعة فاس سنة 1175هـ بإجماع أهل الحل والعقد" .
تولى الحكم في ظروف صعبة، بعد عهد الاضطراب مباشرة، وقد تميز بالعقل والرزانة وبعد النظر. اجتهد في المحافظة على بلاده ووحدتها و تأمين الشواطئ المغربية من العدوان الإسباني والبرتغالي، رغم صعوبة الظروف. وكان دائم التنقل بين جهات مملكته الواسعة ليطمئن على أحوال رعيته. لذلك كان له الفضل في الخروج بالبلاد إلى عهد مشرق يمثل أوج الازدهار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي للمغرب .
منجزاته على المستوى الداخلي
لقد وحد المغرب من جديد، واسترجع الثغور وحصن الشواطئ، فقمع جشع الدول الاستعمارية، وطمعها في خيرات المغرب، فاستطاع أن يستعيد مازغان من أيدي البرتغاليين سنة 1182/1768م، حيث جهز قوة ضخمة لاستعادة هذا الميناء. وفتح البريجة سنة 1183هـ/1769 وأخرج النصارى منها وهدمها .
وبنى وأسس مدينة الصويرة. كما كان يتابع عن كثب مقدار القوة النارية التي جمعها الإسبان في سبتة، فرأى أن يرجئ الاستيلاء عليها إلى وقت آخر. يقول السلاوي بخصوص اعتنائه بأمور البحرية والجندية : " وأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المرابع وثلاثين من الغراكط والغلائط، وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها. وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة، ومن الطبجية ألفين. وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا، ومن الأحرار سبعة آلاف، وأما عسكر القبائل الذي كان يغزو مع الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف. وكانت له هيبة عظيمة في مشوره، ومواكبه يتحدث الناس بها، وهابته ملوك الفرنج وطواغيتهم، ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر. وبلغ ذلك رحمه الله بسياسته وعلو همته، حتى عمت مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوف (المسكوف =الروس) فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني، ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان وأبى مسالمته. ووظف على الأجناس الوظائف فالتزموها، وكانوا يؤدونها كل سنة، واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع في هذه السنين المتأخرة. وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون عليه. مهما كتب إلى طاغية في أمر سارع فيه ولو كان محرما في دينه. ويحتال في قضاء الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا. وكان أعظم طواغيتهم طاغية الإنجليز وطاغية الفرنسيس، فكانوا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس، فكان رحمه الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف ". .
كما اهتم بالصحراء المغربية فجدد ولاية شيوخ قبائلها بواد نون وأدرار وماسة والساقية الحمراء. واجتث رواسب عهد الاضطراب، وقضى على جميع الانحرافات والتطلعات الشخصية والقبلية. وكان أول ما عني به العبيد الذين كانت حالتهم قد ساءت بسبب تسلط البربر عليهم. كما جدد الضرائب على فاس وغيرها من مدائن المغرب.
نظم شؤون القضاء، وجدد مسطرته، حيث استصدر ظهائر دورية عديدة، تستهدف إصلاحه، وخاصة بالمحاكم الشرعية، كما تستهدف تذكير القضاة بواجبهم وتوصي بالأيتام والضعفاء، تحقيقا للعدالة .
واهتم بالجانب العمراني، فإليه يرجع الفضل ببناء مدن: الصويرة سنة 1178هـ وفضالة والمحمدية، وتجديد مدينة أنفا. كما شيد ما يناهز ستين مؤسسة، من مساجد ومدارس وغيرها.
منجزاته على الصعيد الخارجي
استفاد سيدي محمد بن عبد الله من المتغيرات السياسية العالمية فأنضجت تجاربه السياسية، كالثورة الفرنسية، واستقلال أمريكا، واحتلال انجلترا لكندا .
فقد كانت سياسته الخارجية تتجه في اتجاهين متوازيين: الاتجاه العثماني والإسلامي من جهة، والاتجاه الغربي من جهة أخرى .
كما بنى علاقات ديبلوماسية متينة مع دول أوربا الغربية بغية إعادة مكانة المغرب في السياسة الخارجية. ومن أجل ذلك فرض عليها ضريبة المرور بالمياه الإقليمية للمغرب .
كما طلبت منه الولايات المتحدة الأمريكية أن يقيم معها معاهدة صداقة وتجارة، وقد راسله رئيسها –إذ ذاك- جورج واشنطن، مشيدا بالعلاقات الودية التي تجمع بين البلدين، مما جعل المولى محمد بن عبد الله من أوائل الملوك والدول المعترفين بالفدرالية الأمريكية. ولم يلبث أن عقد معها المعاهدة المطلوبة سنة 1768م .
كما وقع عدة معاهدات سلام مع كل من ملك السويد وملك الدانمارك كريستيان السابع، وملك انجلترا جورج الثاني، وكذا مع البرتغال.
وفي عهد هذا الملك تم الاعتراف بالسيادة المغربية على مدينتي سبتة ومليلية وبضمان صيانته تاريخيا. كما عقد اتفاقية مع ملك فرنسا لويس السادس عشر يتم بموجبها إلغاء الرق بين المسلمين والمسيحيين سنة 1777م، مما يعتبر سبقا في سياسة المغرب الدولية .
وتوفي رحمه الله في طريقه إلى الرباط سنة 1204هـ/1790م ودفن بها. وبهذا تنتهي حياة السلطان محمد بن عبد الله بن إسماعيل الذي يعتبر من أعاظم سلاطين دولة الشرفاء العلويين، فقد حكم ثلاثا وثلاثين سنة هجرية تعتبر من أحسن سنوات هذه الدولة قبل الاحتلال الفرنسي. فقد كان رائدا للمغرب، مجددا لمعالم دولة عصرية، وباعثا لنهضتها العلمية والإصلاحية والفكرية الشاملة، فاستحق لقب " سلطان العلماء وعالم السلاطين " سنة 1767-1782م. كما ألف مؤلفات القصد من ورائها حفز الهمم من أجل التحرر من الجمود والرجعية على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية وغيرهما .
لكل ذلك اهتم به الكتاب الأوربيون، فألف لويس شينيه قنصل فرنسا بالمغرب سنة 1767-1782م، كتابا حول تاريخ المغرب، من خلال مراسلاته الديبلوماسية، تضمن وثائق هامة عن عهد المولى محمد الثالث .
المولى إسماعيل (1082-1139هـ/1672-1727): موطد دعائم الدولة المغربية
بويع المولى إسماعيل بن علي الشريف مباشرة بعد وفاة أخيه الرشيد سنة 1082هـ، وهو في السادسة والعشرين من عمره، واتخذ مكناسة عاصمة له. قام بمنجزات على الصعيدين الداخلي والخارجي من أجل تطوير صرح الدولة المغربية، وتوطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوعها .
تدل مجموع الأعمال التي قام بها المولى إسماعيل على ملكته التنظيمية المتميزة. فكان من أبرز اهتماماته إعادة تنظيم وتجهيز مؤسسة الجيش. فأنشأ جيش العبيد البخاري من السود الذي بلغ عدده مائة وخمسين ألفا، وفرقهم في نواحي البلاد وحصنهم في القلاع لضمان الاستقرار والهدوء في مختلف أرجاء مملكته .
ووضع نظاما مبتكرا لتربية عبيد البخاري وقد كثروا جدا نتيجة لتزاوجهم وإنجابهم، فكان يأخذ أولا بنات أولئك العبيد من سن عشر سنوات فأكثر فيفرقهن على عريفات القصور، ليؤدبهن بآداب القصور ويعرفهن بأصول الخدمة. بل أنشأ لهن قصرا خاصا للتربية والتأديب.كما يربي الشباب على تعلم مختلف الحرف كالنجارة والحدادة وبقية الحرف، ثم يدربون على فنون القتال وأعمال الجندية حتى إذا صاروا فرسانا واطمأن إلى أنهم مقاتلين يعتمد عليهم، زوج أولئك الجنود من بنات العبيد اللائي تربين تلك التربية الخاصة، ويعطي كلا منهم عشرة مثاقيل مهر زوجته ويدفع إلى كل بنت خمسة مثاقيل شوارها. ثم يعين على كل طائفة من المقاتلين واحدا من آبائهم ضابطا. ويعطى ذلك الضابط ما يبتني به لنفسه دارا في مركز تلك القوة في مشرع الرمل قرب مكناسة .
إلى جانب جيش عبيد البخاري أنشأ نظاما جديدا للجيش سمي بنظام الودايا. وتنقسم هذه الودايا إلى ثلاث أرحاء: رحى أهل السوس ورحى المغافرة ورحى الودايا. وهكذا كون المولى إسماعيل جيش العلويين من هذه الودايا الثلاثة، وكلهم كانوا من العرب. وكان ينزع عنهم خيلهم وسلاحهم فلا يعيدها إليهم إلا في أيام الحرب .
كما اعتنى المولى إسماعيل عناية خاصة بتحصين البلاد بالقلاع، لغلبة الهاجس العسكري على مشروعه السياسي، فحصن الناحية الشرقية بالقلاع الحصينة وأنزل في كل منها العبيد بخيلهم وسلاحهم، وألزم الناس بدفع الزكوات والعشور بهذه القلاع التي كانت موزعة توزيعا جغرافيا دقيقا على الجبهة الشرقية وما بينها وبين تازا. كما أنه حصن مدينة مكناسة وسلحها بالمدافع والأسوار .
الواجهة الداخلية
سيطرت على المولى إسماعيل فكرة سيادة المغرب سيادة تامة وإقامة الوطن العربي الموحد. لذلك سعى من البداية جاهدا إلى القضاء على مراكز القوة العسكرية الداخلية. ووجه اهتماماته إلى ضرورة إزالة كل مركز سياسي عدا سلطان السلطنة معتمدا في ذلك أساسا على العبيد البخارية .
ثم إن قوة تنظيمه لمؤسسة الجيش مكنته من استرجاع عدة ثغور، وخاصة منها المناطق الساحلية، فحرر المهدية سنة 1092هـ، وطنجة سنة 1095هـ، والعرائش سنة 1101هـ، ثم أصيلا سنة 1102هـ. وحاول تحرير سبتة ومليلية سنة 1106/1693م .
كما حاول التوسع في الشرق، فسار إلى تلمسان في اتجاه نهر شلف، إلا انه لقي مقاومة عنيفة من الأتراك، إلى أن وقع الصلح بينه وبين الأتراك: كما استرجع الصحراء وبلاد السودان .
الواجهة الخارجية
اهتم السلطان بعلاقات المغرب الخارجية أيما اهتمام، حفاظا على سمعة المغرب بالخارج. فقد سعت كل من تركيا وفرنسا إلى توطيد العلاقات مع المغرب. كما أن انجلترا قد تنازلت عن مدينة طنجة فاستعاضت طنجة بجبل طارق إرضاء له سنة 1705م ورغبة منها في أن يوقع معها معاهدة للسلام سنة 1133هـ. كما احتفظ مع العثمانيين بعلاقات مميزة، فالتزم بذلك واحتفظ للعثمانيين بعلاقة متميزةّ .
كما عرف عن المولى اسماعيل نشاطه في دعوة ملوك أوربا للدخول في الاسلام، كما يذكر ذلك المؤرخ الفرنسي " سان أولون " بقوله : " . ويدعو ( أي المولى اسماعيل) المسيحيين للدخول في دين الاسلام، وصدرت منه مكاتيب بذلك لجل دول أوربا، أشهرها كتابه للويس الرابع عشر – ملك فرنسا- يذكره بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل عظيم الروم، ويدعوه إلى الإسلام ".
خاتمة :
والحق أن الإنجازات التي قام بها السلطان إسماعيل تعتبر تطورا هاما في تاريخ بناء الوطن المغربي، فقد اجتهد في تحويل أهل المغرب الأقصى جميعا إلى رعية مستأمنة. حيث حكم سبعا وخمسين سنة، (توفي سنة 1039، ودفن بضريح الشيخ المجذوب). شهدت الدولة العلوية في هذه الفترة ازدهارا ملحوظا، وخلد مآثر عمرانية كبيرة، ولا سيما المساجد والمدارس وخاصة، بمدينة مكناس، كما وسع ضريحي الإمامين إدريس الأكبر والأصغر وزاد فيهما من كل ناحية. وقد قال السلاوي معلقا على حكم المولى إسماعيل في مجموعه : " ولم يبق في هذه المدة بأرض المغرب سارق أو قاطع طريق. ومن ظهر عليه شيء من ذلك وفر في القبائل قبض عليه بكل قبيلة مر عليها أو قرية ظهر بها، فلا تقله أرض حتى يؤتى به أينما كان. وكلما بات مجهول حال بمحلة أو قرية ثقف بها إلى أن يعرف حاله. ومن تركه ولم يحتط في أمره أخذ بما اجترحه، وأدى ما سرقه أو اقترفه من قتل وغيره .
وكذلك المولى إسماعيل بن محمد [1056-1139هـ/ 1645- 1727م ] الذي كانت أيامه من أزهى أيام الدولة العلوية ، وقد دانت له ربوع المغرب كلها، واتسعت دولته حتى بلغت تخوم السودان. وكذلك المولى الرشيد بن محمد [1040- 1082هـ / 1630- 1672 م] الذي فتح تازة وأخضع سجلماسة وامتلك فاس ودخل مراكش وأخضع بلاد السوس وأرسل جيشا لضم طنجة، واستقر بمراكش وكان كثير الفتوحات محبا للعلم والعلماء. وكذلك المولى عبد الرحمن بن هشام [1204- 1276هـ/1790- 1859م] الذي أنشأ الأساطيل لحماية الشواطئ واهتم بنشر العلم وبترقية الزراعة والصناعة .وما إلى ذلك. وكذلك المولى محمد بن عبد الله بن إسماعيل [1134- 1204هـ/ 1721- 1790م] الذي كانت له فتوحات بحرية كثيرة، وبنى مدنا ومساجد ومدارس وأنشأ المراكب البحرية وأنفق الأموال الطائلة على فكاك أسرى المسلمين من أيدي الإفرنج. وكذلك بطل التحرير محمد الخامس طيب الله ثراه الذي اجتمعت حوله كل القوى الوطنية [1927- 1961م] وقاد البلاد إلى الاستقلال الذي أعلن عنه في مارس سنة 1956. وكذلك فقيد العروبة والإسلام موحد البلاد وباني السدود الحسن الثاني [1961- 1999م] الذي خلص البلاد من بقايا الاستعمار وتظم المسيرة الخضراء سنة 1975 م .هؤلاء الملوك وغيرهم خدموا الدين والوطن والأمة، وكانوا على مستوى من الحنكة السياسية فكانوا بحق من المخلدين في ذاكرة التاريخ، فعرفت في ظلهم المملكة المغربية تطورا وازدهارا وأمنا وسلاما وذلك بتشبثهم وتمسكهم بثوابت ومقومات دينهم الحنيف.
المولى على الشريف (مؤسس الدولة العلوية ﴾
هو المولى علي بن الحسن بن عبد الله، المعروف بالشريف، ومنه تفرعت فروع المحمديين، وكان مولده سنة 997هـ/1589م، ومن أولاده الذين تولوا الملك من العلويين نجد محمد والرشيد والمولى إسماعيل، وقد تولوا الملك على هذا الترتيب .
عرف بالصلاح والتقوى، وكان مجاب الدعوة، كثير الأوقاف والصدقات، قسم أوقاته بين الحج والجهاد بإفريقيا والأندلس .
وقد رحل إلى فاس وأقام بها مدة يدرس، ثم حج وعاد إلى سجلماسة ليقيم بقرية تسمى جرس على مرحلتين ونصف من سجلماسة، ثم خرج إلى الأندلس للجهاد، ثم عاد إلى سجلماسة فكتب إليه أهل الأندلس يطلبون إليه العودة، فعاد إليهم وشارك في الجهاد .
عرض عليه الأندلسيون الخلافة لكنه أبى ورفض ورعًا وزهدًا. قال الزياني في ذلك : " وممن عظم العلم، واكتفى به عن الملك، وزهد فيه، مولاي علي الشريف جد الأشراف العلويين، فإنه كان يتوجه للغزو بجزيرة الأندلس المرة بعد المرة، واشتهر علمه، وظهر فضله، وراوده أهل الأندلس على ملكها، فزهد فيه وقال: "يكفيني قصب العلم ".
وقال اليفرني:" وقد وقفت على رسائل عديدة بعث بها إليه علماء غرناطة يحضونه على الجواز إليهم واستنفار المجاهدين إلى حماية بيضتهم ويذكرون له أن كافة أهل غرناطة من علمائها وصلحائها ورؤسائها قد وظفوا على أنفسهم من خالص أموالهم دون توظيف سلطان عليهم أموالا كثيرة برسم الغزاة الذين يردون معه من المغرب، وحلوه في بعض تلك الرسائل بما نصه: "إلى الهمام الضرغام قطب دائرة فرسان الإسلام الشجاع المقدام، الهصور الفاتك، الوقور الناسك، طليعة جيش الجهاد، وعين أعيان النجاد، المؤيد بالفتح في هذه البلاد، المسارع إلى مرضاة رب العباد، مولانا أبي الحسن علي الشريف" . وكتبوا مع ذلك إلى علماء فاس يلتمسون منهم أن يحضوا المولى عليا على العبور إلى العدوة فكتب إليه أعلام فاس بمثل ذلك وحثوه على المسارعة إلى إغاثتهم، وذكروا له فضل الجهاد وأنه من أفضل أعمال البر، فقالوا له في بعض تلك الرسائل: "وعوضوا هذه الوجهة الحجية التي اجتمع رأيكم عليها، وتوفر عزمكم لديها بالعبور إلى الجهاد، فإن الجهاد، أصلحكم الله في حق أهل المغرب، أفضل من الحج كما أفتى به الإمام ابن رشد حين سئل عن ذلك، وقد بسط الكلام عليه في أجوبته ووجه ما ذهب إليه من ذلك .
وكان ممن كتب إليه من علماء غرناطة جماعة منهم: الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراج شيخ المواق وقاضي الجماعة بها. ومن شيوخ فاس الذين كتبوا إليه: الفقيه أبو عبد الله العكرمي شيخ شيوخ الإمام ابن غازي، وأبو العباس أحمد بن محمد بن ماواس، وأبو زيد عبد الرحمن الرقعي صاحب الرجز المشهور وغيرهم .
لقد ضرب المولى علي الشريف أروع الأمثال في التضحية ونكران الذات، في سبيل تحقيق تلك الأهداف المشتركة للمغاربة والأسرة العلويةالشريفة، التي ظلت على امتداد ثلاثة قرون ونصف القرن، القاسم المشترك الذي جعلهما بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا، وذلك بتطوعه للجهاد، لإنقاذ الإسلام من مخالب الكنيسة الصليبية، بطلب من علماء المغرب والأندلس الذين راسلوه في الموضوع شعرا ونثرا
وهكذا كان المولى علي الشريف مشهورا في عصره، متقدما على كافة أهل مصره، وأنه كان ملحوظا بالإجلال عندهم والإكبار .
المولى رشيد (موحد الوطن ﴾
يعتبر مولاي رشيد بن علي الشريف المؤسس الحقيقي لدولة الأشراف العلويين. وتروي المصادر التاريخية أن هذه الشخصية تميزت بذكاء وبعد نظر، وحب للعلم والعلماء. فعرف المغرب في عهده وحدة ورخاء وازدهارا بعد فترة طويلة من التفرق والحروب الأهلية فما أن تولى الحكم حتى بدأ في مشروعه الإصلاحي، حيث ركز في البداية على تدعيم أركان سلطته واستكمال الوحدة الترابية للمغرب .
وهكذا فتح سجلماسة –التي بايعت محمد الصغير بن محمد الأول- ودخلها سنة 1079هـ وأصلح أمرها، وأعاد تنظيمها إداريا وعسكريا .
ثم فتح فاس سنة 1076هـ حيث تمت مبايعته، فأكرم العلماء والطلبة الذين أعجبوا بشخصيته العربية وتشبثه بالتقاليد الإسلامية. ثم قضى تباعا على الدلائيين والشبانيين والسملاليين.
بسط المولى رشيد سلطانه على المغرب كله من الساحل الشمالي على السوس. وقد حرص على القضاء على القوة العسكرية السوسية. ومن فاس خرج المولى رشيد لزيارة الشيخ أبي يعزى، ثم قصد سلا فزار صلحاءها، واستطاع أن يخمد كل حركة قامت ضده في السوس أو مراكش أو تافيلالت أو فاس .
وهكذا في وقت قياسي، لا يتجاوز سبع سنوات، حقق المولى الرشيد الوحدة الوطنية المنشودة، بعد التمزق الذي عانى منه المغرب أزيد من ستين سنة، على يد الزعامات الطائفية المتناحرة. كما حارب مختلف الزوايا وشيوخ الطرق الصوفية الذين كان لهم موقف عدائي تجاه قيام الدولةالعلوية .
بعدما استتب له الأمر، ووحد أطراف البلاد، ركز مجهوداته على استكمال الوحدة الترابية وتحرير الأجزاء التي كانت في يد المحتل، فحرر طنجة التي كانت في يد الأنجليز سنة 1082هـ، بعد أن حصن الرباط وسلا بقلعتين عظيمتين حيث قضى على الوجود الإنجليزي بالشمال، كما عمل على تنشيط الجهاد البحري .
ورغم حذره من الدول الأجنبية فقد شرع في العمل على مد جسور التعاون التجاري معها. وعرف المغرب على أيامه الاستقرار والرخاء والازدهار الاقتصادي. وضرب العملة الرشيدية سنة 1081هـ كما اهتم بالعمران، فبنى قنطرة وادي سبو سنة 1080هـ .
ولكنه توفي في عز شبابه وعطائه، وفي أوج انتصاراته ومجده السياسي والعسكري، إذ جمح به فرسه، فارتطم رأسه بشجرة فتهشم ومات لحينه بمراكش سنة 1082 هـ/1672 ودفن بها، ثم نقل جثمانه إلى ضريح سيدي علي بن حرزهم بفاس، حسب وصيته، وقال وهو يحتضر" سبحانك يا من لا يزال ملكه، عبد الرشيد زال ملكه ".
سيدي محمد بن عبد الله (1171-1204هـ/1757-1790): رائد الدولة المغربية الحديثة
وازدحم على بيعته أهل مراكش وقبائل الحوز، وقدمت عليه وفود السوس وحاحة بهداياهم، ثم قدم عليه العبيد والودايا وأهل فاس من العلماء والأشراف وسائر الأعيان وقبائل العرب والبربر والجبال وأهل الثغور، كل ببيعته وهديته، لم يتخلف عنه أحد من أهل المغرب فجلس للوفود إلى أن فرغ من شأنهم وأجازهم، وزاد العبيد بأن أعطاهم خيلا كثيرا وسلاحا عرفوا به محلهم من الدولة وانقلبوا مسرورين مغتبطين .
بويع سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل بمراكش سنة 1171هـ، قال السلاوي : " ثم جاءت بيعة فاس سنة 1175هـ بإجماع أهل الحل والعقد" .
تولى الحكم في ظروف صعبة، بعد عهد الاضطراب مباشرة، وقد تميز بالعقل والرزانة وبعد النظر. اجتهد في المحافظة على بلاده ووحدتها و تأمين الشواطئ المغربية من العدوان الإسباني والبرتغالي، رغم صعوبة الظروف. وكان دائم التنقل بين جهات مملكته الواسعة ليطمئن على أحوال رعيته. لذلك كان له الفضل في الخروج بالبلاد إلى عهد مشرق يمثل أوج الازدهار السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي للمغرب .
منجزاته على المستوى الداخلي
لقد وحد المغرب من جديد، واسترجع الثغور وحصن الشواطئ، فقمع جشع الدول الاستعمارية، وطمعها في خيرات المغرب، فاستطاع أن يستعيد مازغان من أيدي البرتغاليين سنة 1182/1768م، حيث جهز قوة ضخمة لاستعادة هذا الميناء. وفتح البريجة سنة 1183هـ/1769 وأخرج النصارى منها وهدمها .
وبنى وأسس مدينة الصويرة. كما كان يتابع عن كثب مقدار القوة النارية التي جمعها الإسبان في سبتة، فرأى أن يرجئ الاستيلاء عليها إلى وقت آخر. يقول السلاوي بخصوص اعتنائه بأمور البحرية والجندية : " وأما اعتناؤه بالمراكب القرصانية فقد بلغ عددها في دولته عشرين كبارا من المرابع وثلاثين من الغراكط والغلائط، وبلغ رؤساء البحر عنده ستين رئيسا كلها بمراكبها وبحريتها. وبلغ عسكر البحرية ألفا من المشارقة وثلاثة آلاف من المغاربة، ومن الطبجية ألفين. وبلغ عسكره من العبيد خمسة عشر ألفا، ومن الأحرار سبعة آلاف، وأما عسكر القبائل الذي كان يغزو مع الجند فمن الحوز ثمانية آلاف ومن الغرب سبعة آلاف. وكانت له هيبة عظيمة في مشوره، ومواكبه يتحدث الناس بها، وهابته ملوك الفرنج وطواغيتهم، ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف يطلبون مسالمته في البحر. وبلغ ذلك رحمه الله بسياسته وعلو همته، حتى عمت مسالمته أجناس النصارى كلهم إلا المسكوف (المسكوف =الروس) فإنه لم يسالمه لمحاربته للسلطان العثماني، ولقد وجه رسله وهديته إلى طنجة فردها السلطان وأبى مسالمته. ووظف على الأجناس الوظائف فالتزموها، وكانوا يؤدونها كل سنة، واستمر ذلك من بعده إلى أن انقطع في هذه السنين المتأخرة. وكانوا يستجلبون مرضاته بالهدايا والألطاف وكل ما يقدرون عليه. مهما كتب إلى طاغية في أمر سارع فيه ولو كان محرما في دينه. ويحتال في قضاء الأغراض منهم بكل وجه أحبوا أم كرهوا. وكان أعظم طواغيتهم طاغية الإنجليز وطاغية الفرنسيس، فكانوا يأنفون من أداء الضريبة علانية مثل غيرهم من الأجناس، فكان رحمه الله يستخرجها منهم وأكثر منها بوجه لطيف ". .
كما اهتم بالصحراء المغربية فجدد ولاية شيوخ قبائلها بواد نون وأدرار وماسة والساقية الحمراء. واجتث رواسب عهد الاضطراب، وقضى على جميع الانحرافات والتطلعات الشخصية والقبلية. وكان أول ما عني به العبيد الذين كانت حالتهم قد ساءت بسبب تسلط البربر عليهم. كما جدد الضرائب على فاس وغيرها من مدائن المغرب.
نظم شؤون القضاء، وجدد مسطرته، حيث استصدر ظهائر دورية عديدة، تستهدف إصلاحه، وخاصة بالمحاكم الشرعية، كما تستهدف تذكير القضاة بواجبهم وتوصي بالأيتام والضعفاء، تحقيقا للعدالة .
واهتم بالجانب العمراني، فإليه يرجع الفضل ببناء مدن: الصويرة سنة 1178هـ وفضالة والمحمدية، وتجديد مدينة أنفا. كما شيد ما يناهز ستين مؤسسة، من مساجد ومدارس وغيرها.
منجزاته على الصعيد الخارجي
استفاد سيدي محمد بن عبد الله من المتغيرات السياسية العالمية فأنضجت تجاربه السياسية، كالثورة الفرنسية، واستقلال أمريكا، واحتلال انجلترا لكندا .
فقد كانت سياسته الخارجية تتجه في اتجاهين متوازيين: الاتجاه العثماني والإسلامي من جهة، والاتجاه الغربي من جهة أخرى .
كما بنى علاقات ديبلوماسية متينة مع دول أوربا الغربية بغية إعادة مكانة المغرب في السياسة الخارجية. ومن أجل ذلك فرض عليها ضريبة المرور بالمياه الإقليمية للمغرب .
كما طلبت منه الولايات المتحدة الأمريكية أن يقيم معها معاهدة صداقة وتجارة، وقد راسله رئيسها –إذ ذاك- جورج واشنطن، مشيدا بالعلاقات الودية التي تجمع بين البلدين، مما جعل المولى محمد بن عبد الله من أوائل الملوك والدول المعترفين بالفدرالية الأمريكية. ولم يلبث أن عقد معها المعاهدة المطلوبة سنة 1768م .
كما وقع عدة معاهدات سلام مع كل من ملك السويد وملك الدانمارك كريستيان السابع، وملك انجلترا جورج الثاني، وكذا مع البرتغال.
وفي عهد هذا الملك تم الاعتراف بالسيادة المغربية على مدينتي سبتة ومليلية وبضمان صيانته تاريخيا. كما عقد اتفاقية مع ملك فرنسا لويس السادس عشر يتم بموجبها إلغاء الرق بين المسلمين والمسيحيين سنة 1777م، مما يعتبر سبقا في سياسة المغرب الدولية .
وتوفي رحمه الله في طريقه إلى الرباط سنة 1204هـ/1790م ودفن بها. وبهذا تنتهي حياة السلطان محمد بن عبد الله بن إسماعيل الذي يعتبر من أعاظم سلاطين دولة الشرفاء العلويين، فقد حكم ثلاثا وثلاثين سنة هجرية تعتبر من أحسن سنوات هذه الدولة قبل الاحتلال الفرنسي. فقد كان رائدا للمغرب، مجددا لمعالم دولة عصرية، وباعثا لنهضتها العلمية والإصلاحية والفكرية الشاملة، فاستحق لقب " سلطان العلماء وعالم السلاطين " سنة 1767-1782م. كما ألف مؤلفات القصد من ورائها حفز الهمم من أجل التحرر من الجمود والرجعية على جميع المستويات الفكرية والاجتماعية وغيرهما .
لكل ذلك اهتم به الكتاب الأوربيون، فألف لويس شينيه قنصل فرنسا بالمغرب سنة 1767-1782م، كتابا حول تاريخ المغرب، من خلال مراسلاته الديبلوماسية، تضمن وثائق هامة عن عهد المولى محمد الثالث .
المولى إسماعيل (1082-1139هـ/1672-1727): موطد دعائم الدولة المغربية
بويع المولى إسماعيل بن علي الشريف مباشرة بعد وفاة أخيه الرشيد سنة 1082هـ، وهو في السادسة والعشرين من عمره، واتخذ مكناسة عاصمة له. قام بمنجزات على الصعيدين الداخلي والخارجي من أجل تطوير صرح الدولة المغربية، وتوطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوعها .
تدل مجموع الأعمال التي قام بها المولى إسماعيل على ملكته التنظيمية المتميزة. فكان من أبرز اهتماماته إعادة تنظيم وتجهيز مؤسسة الجيش. فأنشأ جيش العبيد البخاري من السود الذي بلغ عدده مائة وخمسين ألفا، وفرقهم في نواحي البلاد وحصنهم في القلاع لضمان الاستقرار والهدوء في مختلف أرجاء مملكته .
ووضع نظاما مبتكرا لتربية عبيد البخاري وقد كثروا جدا نتيجة لتزاوجهم وإنجابهم، فكان يأخذ أولا بنات أولئك العبيد من سن عشر سنوات فأكثر فيفرقهن على عريفات القصور، ليؤدبهن بآداب القصور ويعرفهن بأصول الخدمة. بل أنشأ لهن قصرا خاصا للتربية والتأديب.كما يربي الشباب على تعلم مختلف الحرف كالنجارة والحدادة وبقية الحرف، ثم يدربون على فنون القتال وأعمال الجندية حتى إذا صاروا فرسانا واطمأن إلى أنهم مقاتلين يعتمد عليهم، زوج أولئك الجنود من بنات العبيد اللائي تربين تلك التربية الخاصة، ويعطي كلا منهم عشرة مثاقيل مهر زوجته ويدفع إلى كل بنت خمسة مثاقيل شوارها. ثم يعين على كل طائفة من المقاتلين واحدا من آبائهم ضابطا. ويعطى ذلك الضابط ما يبتني به لنفسه دارا في مركز تلك القوة في مشرع الرمل قرب مكناسة .
إلى جانب جيش عبيد البخاري أنشأ نظاما جديدا للجيش سمي بنظام الودايا. وتنقسم هذه الودايا إلى ثلاث أرحاء: رحى أهل السوس ورحى المغافرة ورحى الودايا. وهكذا كون المولى إسماعيل جيش العلويين من هذه الودايا الثلاثة، وكلهم كانوا من العرب. وكان ينزع عنهم خيلهم وسلاحهم فلا يعيدها إليهم إلا في أيام الحرب .
كما اعتنى المولى إسماعيل عناية خاصة بتحصين البلاد بالقلاع، لغلبة الهاجس العسكري على مشروعه السياسي، فحصن الناحية الشرقية بالقلاع الحصينة وأنزل في كل منها العبيد بخيلهم وسلاحهم، وألزم الناس بدفع الزكوات والعشور بهذه القلاع التي كانت موزعة توزيعا جغرافيا دقيقا على الجبهة الشرقية وما بينها وبين تازا. كما أنه حصن مدينة مكناسة وسلحها بالمدافع والأسوار .
الواجهة الداخلية
سيطرت على المولى إسماعيل فكرة سيادة المغرب سيادة تامة وإقامة الوطن العربي الموحد. لذلك سعى من البداية جاهدا إلى القضاء على مراكز القوة العسكرية الداخلية. ووجه اهتماماته إلى ضرورة إزالة كل مركز سياسي عدا سلطان السلطنة معتمدا في ذلك أساسا على العبيد البخارية .
ثم إن قوة تنظيمه لمؤسسة الجيش مكنته من استرجاع عدة ثغور، وخاصة منها المناطق الساحلية، فحرر المهدية سنة 1092هـ، وطنجة سنة 1095هـ، والعرائش سنة 1101هـ، ثم أصيلا سنة 1102هـ. وحاول تحرير سبتة ومليلية سنة 1106/1693م .
كما حاول التوسع في الشرق، فسار إلى تلمسان في اتجاه نهر شلف، إلا انه لقي مقاومة عنيفة من الأتراك، إلى أن وقع الصلح بينه وبين الأتراك: كما استرجع الصحراء وبلاد السودان .
الواجهة الخارجية
اهتم السلطان بعلاقات المغرب الخارجية أيما اهتمام، حفاظا على سمعة المغرب بالخارج. فقد سعت كل من تركيا وفرنسا إلى توطيد العلاقات مع المغرب. كما أن انجلترا قد تنازلت عن مدينة طنجة فاستعاضت طنجة بجبل طارق إرضاء له سنة 1705م ورغبة منها في أن يوقع معها معاهدة للسلام سنة 1133هـ. كما احتفظ مع العثمانيين بعلاقات مميزة، فالتزم بذلك واحتفظ للعثمانيين بعلاقة متميزةّ .
كما عرف عن المولى اسماعيل نشاطه في دعوة ملوك أوربا للدخول في الاسلام، كما يذكر ذلك المؤرخ الفرنسي " سان أولون " بقوله : " . ويدعو ( أي المولى اسماعيل) المسيحيين للدخول في دين الاسلام، وصدرت منه مكاتيب بذلك لجل دول أوربا، أشهرها كتابه للويس الرابع عشر – ملك فرنسا- يذكره بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل عظيم الروم، ويدعوه إلى الإسلام ".
خاتمة :
والحق أن الإنجازات التي قام بها السلطان إسماعيل تعتبر تطورا هاما في تاريخ بناء الوطن المغربي، فقد اجتهد في تحويل أهل المغرب الأقصى جميعا إلى رعية مستأمنة. حيث حكم سبعا وخمسين سنة، (توفي سنة 1039، ودفن بضريح الشيخ المجذوب). شهدت الدولة العلوية في هذه الفترة ازدهارا ملحوظا، وخلد مآثر عمرانية كبيرة، ولا سيما المساجد والمدارس وخاصة، بمدينة مكناس، كما وسع ضريحي الإمامين إدريس الأكبر والأصغر وزاد فيهما من كل ناحية. وقد قال السلاوي معلقا على حكم المولى إسماعيل في مجموعه : " ولم يبق في هذه المدة بأرض المغرب سارق أو قاطع طريق. ومن ظهر عليه شيء من ذلك وفر في القبائل قبض عليه بكل قبيلة مر عليها أو قرية ظهر بها، فلا تقله أرض حتى يؤتى به أينما كان. وكلما بات مجهول حال بمحلة أو قرية ثقف بها إلى أن يعرف حاله. ومن تركه ولم يحتط في أمره أخذ بما اجترحه، وأدى ما سرقه أو اقترفه من قتل وغيره .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق