حكايات مجنونة // من الأدب الساخر
من الأدب الساخرحكايات مجنونة
الكتاب الأول
مطرب الأحذية
مجدي صابر
دار الأمين
للنشر والتوزيع
الحكاية الأولى مهداة لابن الأرض
من لم يمت بالمغص ..
مات بغيره
لم نفهم سر المسألة إلا بعد الحادث الثالث .. ففي المرة الأولى عندما كنا عائدين من الإسكندرية بسيارتي، واصطدمت السيارة بلوري، كانت النتيجة إصابتنا جميعا بكسور وارتجاجات في المخ، أنا وزوجتي وأخي وكانت الوحيدة التي خرجت سليمة من الحادث هي حماتي – تسعين عاماً – والتي أصيبت فقط بكسر في كعب حذائها!
وفي المرة الثانية عندما ذهبت حماتي لزيارة صديقة لها في دار لرعاية المسنين انهارت الدار على رءوس الجميع، ولم يخرج منها أحد حياً غير حماتي وكانت إصابتي طفيفة.. مجرد تمزق في ذيل فستانها.
وفي المرة الثالثة عندما شب حريق في دار السينما التي تعرض أفلاماً هندية في حينا والتي كانت حماتي تذهب إليها ثلاث مرات في اليوم، لم ينج أحد من الحريق غير حماتي طبعاً، والتي لم يحترق منها شيء غير "أعصابها" . وذلك لأن الحريق منعها من مشاهدة نهاية الفيلم ومعرفة ماذا ستفعل البطلة عندما تكتشف أن حبيبها هو أخوها، وأن أمها ليست أمها وأن الشرير الوحيد في الفيلم هو أبوها.
وهكذا تأكدنا أن حماتي من النوع غير القابل "للكسر".. وأن عزرائيل ربما عقد معها معاهدة عدم اعتداء بشكل ما بحيث لا يقترب منها قبل أن تتم المائتين من عمرها. ولما كانت حماتي من النوع الذي يتفنن في ابتكار وسائل غير مسبوقة في العكننة عليّ وتحويل حياتي إلى جحيم، لذلك لم يكن لديّ شك أيضاً في أن ما تبقى من عمري لن يزيد على بضع سنوات قليلة سأقضيها موزعاً ما بين مستشفيات تعالج ضغط الدم والقلب ولسكر وغيرها.. ولم يكن لدي شك أيضاً في أنه يوماً ما ستقف حماتي لتتقبل فيّ العزاء والجميع يدعون لها بالعمر الطويل وتحمل المصاب الأليم!
ولكني فوجئت بحماتي ذات يوم تشكو من مع في بطنها فظننتها تمزح، فأي مغص يمكن أن يصيب امرأة تقهر النيران والانهيارات والزلازل والحوادث، وتدمن أفلام "أميتاب باتشان"؟
ولكن تحت إلحاح زوجتي اضطررت إلى نقل حماتي إلى أقرب مستشفى حكومي وضد رغبة زوجتي التي أرادت نقل أمها إلى مستشفى خاص أو إلى عيادة طبيب متخصص. فأكدت لها أن أمها "تتدلع" بادعاء المغص، فأي شيء يمكن أن يؤثر في أمعاء أو معدة امرأة لا يؤثر فيها شرب "ماء النار" الكاوية ولو على سبيل الخطأ؟
ولكن بواب المستشفى أخبرنا أننا جئنا بعد مواعيد العمل الرسمية وأنه لا يستطيع فتح بوابة المستشفى بعد الخامسة مساء.. وثار وأرغى وأزبد ضد هؤلاء الذين لا يحلو لهم المرض إلا بعد المواعيد الرسمية!
ولما قامت الورقة الخضراء ذات الخمسة جنيهات بالتفاهم معه رفع يده بالتحية لنا والدعاء للمريضة بالشفاء، وعندما تجاوزنا أسوار باب المستشفى وحماتي تتساند على أيدينا.. وفوجئنا بها في لحظة خاطفة تختفي فجأة كما لو أنها طارت في الهواء أو ابتلعتها الأرض. وبنظرة سريعة أدركت أن ما ابتلع حماتي ليس سوى بلاعة منزوعة الغطاء.. فلما أسرعنا لاستدعاء أحد عمال المستشفى ليتدلى داخل البالوعة مربوطاً من الحبال وسط صراخ زوجتي على أمها.. فوجئنا بحماتي تخرج من البلاعة وليس بها غير كسر في ساقها.. في حين لم يخرج العامل الذي هبط لإنقاذها حتى هذه اللحظة!
ولما أسرعت إلى الطبيب النوباتشي لعلاج ساق حماتي وتجبيسها، زأر في وجهي كوحش جريح بأنه لن يتزحزح من أمام التلفزيون قبل أن يشاهد فريق الأهلي وهو يسجل هدف التعادل في فريق الزمالك.. لاعنا هؤلاء المرضى قليلي الذوق الذين لا يحلو لهم المرض إلا في أوقات مباريات فريق الأهلي وهو مهزوم بالذات!
ولما كانت النتيجة في النهاية هي فوز الزمالك، لذلك اضطررنا للاستعانة بطبيب زملكاوي راح يضع الجبس حول قدم حماتي وهو يبكي تأثراً ليس حزناً على ما أصابها، بل فرحة بفوز نادي الزمالك، وفوزه هو شخصياً بعشرة جنيهات كان قد تراهن بها مع "ترسناوي" لا ناقة له في المباراة ولا جمل!
وتمددت حماتي بساق في الجبس داخل إحدى حجرات المستشفى وقد عاودتها الآم المغص، ثم انقطع صراخها فجأة ليس بسبب اختفاء المغص بل بسبب سقوط جزء من سقف الحجرة فوق رأسها.. ولو لم نسرع لحملها خارج الحجرة لانهار فوقها بقية السقف.
وهكذا تم عمل جبيرة جبس حول رأس حماتي لعلاج الكسر الذي حدث في جمجمتها.. ولما تركنا الحجرة للحظات بحثاً عن طبيب يعالجها من المغص، عدنا لنجد فأراً في حجم جحش صغير وقد راح يلتهم أصبع قدم حماتي المكسورة وهي لا تستطيع حتى إبعاده بسبب الجبيرة حول رأسها وساقها.. وفر الفأر بغنيمته عندما شرعنا في مطاردته، عبر سرداب ضيق محفور في نفق الحجرة لعله كان ينتهي في حجرة مدير المستشفى!
فلما ضمد الطبيب الاصبع المأكول ولاحظ ضيقاً في تنفس حماتي أسرع بوضع كمامة أكسجين فوق أنفها وفمها وعندما تنبه إلى أن كمامة التنفس التي وضعها لحماتي كانت تمتد لأنبوبة بوتاجاز بدلاً من أنبوبة الأكسوجين – بعد أن استمع إلى تحليل أسباب فوز الزمالك في التلفزيون – كان الأوان قد فات لأي عمل!
ولم يصدق أحد أن حماتي قد انتقلت للعالم الآخر لسبب تافه كهذا.. وعندما وقفت لتقبل العزاء في الفقيدة، كانت تتلاعب على شفتي ابتسامة غامضة.
حسناً. أن أحداً لم يفكر لماذا أصررت بالذات على نقل حماتي إلى ذلك المستشفى الحكومي بالذات عندما أصابها المغص.. فهل أدركتم السر الآن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق