اثار المملكة النوبية
كتبهاصوت النوبه
بدأ البحث الآثاري المنظم فى النوبة فقط فى سنة 1906. كلف مدير مصلحة الآثار المصرية حينها، الفرنسي الإيطالي ماسبيرو، فايجل باجراء استكشاف للآثار المصرية فى المنطقة التى أصبحت مهددة بالغرق بفعل تشييد خزان أسوان. كان فايجل هو الأول الذى أشار الى وجود ثقافة أصيلة تختلف عن الثقافات المصرية.
كان ريزنر الباحث الأول الذى قام بتصنيف تواتر كرونولوجي Reisner,1910. طور هام من هذا التواتر تمثله ثقافة "المجموعة الثالثة"، المسماة أيضاً بالنوبية الوسطى. تمثل المجموعة الثالثة أو النوبية الوسطى تقليداً غير منقطع فى التاريخ الثقافي للنوبة السفلى، والتى، طبقاً للنصوص المصرية، مرت بفترة رخية شهدت مستويات سكانية عالية.ليس سهلاً تفسير أصل ثقافة "المجموعة الثالثة"، فقد طرح الباحثون العديد من النظريات، بما فى ذلك نظرية الهجرة والنظرية التطورية.
النظرية التطورية
تقول النظرية التطورية بأن ثقافة "المجموعة الثالثة" تشتق جذورها من الثقافة الأقدم "المجموعة الأولى". ألفت هذه الأخيرة جماعات صغيرة منظمة فى اقامات زراعية/ زراعية-رعوية متواضعة. مع تقادم الزمن زاد زعماء الجماعات من سلطاتهم. كم كبير من المواد التى تم جمعها من مواقع فى المنطقة المصرية، وهو ما يشير احتمالاً الى وجود علاقات وثيقة بين القطرين Nordstrom,1972.
فيما بعد أصبحت السلطة فى مصر مركزية، وأصبحت مصر تمارس تأثيراً سيادياً على جيرانها، بهدف الحصول على منتجات جبال البحر الأحمر والسودان الأوسط. فى الوقت الذى كانت الأسر الأولى آخذة فى التشكل فى مصر، فإنه يبدو أن ثقافة المجموعة الأولى فى النوبة كانت تعاني من الانهيار. ويبدو أن البينة الآثارية تدعم فكرة أن الطور النوبي الأوسط كان فى الأساس استمراراً وتطوراً للطور الأخير لثقافة المجموعة الأولى، المسماة أيضاً بالنوبية المبكرة. وجدت مواقع كانت مأهولة خلال الفترتين واستمرت باقية الجرار ذات العنق الأسود، مثلها مثل الممارسات الجنائزية، من الطور النوبي المبكر.
فى الطور النوبي الأوسط الأول يبدو أن عناصر جديدة أخذت فى الظهور: لكنها لا تستبعد، فى رأي، إمكانية الاستمرارية. على سبيل المثال، وجدت العديد من الهياكل التى تحمل سمات زنجية فى مدافن المجموعة الثالثة، فى حين كانت هياكل الفترة السابقة تحمل سمات أشبه بسمات المصريين.
الاجابة على تلك الأسئلة يمكن ان يوفرها البحث الجاري مؤخراً فى كرمة Aa.Vv.1990. تشير الاكتشافات الجديدة الى وجود، منذ أزمان العصر الحجري الحديث، مجتمع مستقر يحكمه زعماء محليون يمتلكون قدراً معلوماً من السلطة. ويشير اكتشاف موقع اقامة سابق لعصر كرمة يحتوي على فخار معاصر فى منطقة الشلال الثالث الى مناخ اجتماعي سياسي فى النوبة الوسطى مختلف عن ذلك الموجود فى النوبة السفلى. فى حوالي 3000 ق.م. تم تدعيم النمو السكاني الذى كان قد بدأ فى العصر الحجري الحديث المتأخر. لم يتم العثور على مواد مصرية مستوردة، ويبدو أن هذا المجتمع قد اتبع تنظيماً مستقلاً.
مع أن النوبة السفلى مثلت دولة عازلة على مدى 2000 سنة تقريباً، فإننا نجد العديد من التشابهات فى المادة التى تم جمعها فى الحدود الجنوبية لمصر فى النوبة العليا. بلا شك فى وجود شبكة علاقات مكثفة، ويبدو أن العديد من السمات قد تشير الى نشوء سلطة محددة. الفخار عالى الجودة يمثل ارتداداً للأزمان الحجرية الحديثة. إلا أن تطور الأشكال، والزخرف، والبنية يشهد على تحول سريع، ارتبط بتأسيس المملكة، التى هى بلا شك كرمة. الطلب المتزايد من جانب المصريين لمنتجاتها الغريبة أعطت لهذه المملكة، التى يمكن أن تكون يام طبقاً لنصوص المملكة المصرية القديمة، دوراً حاسماً.
سجل تاريخ حضارة كرمة فقط بدءاً من 2500 ق.م. يسمى الباحثون هذا الطور بـ كرمة القديمة. فى جبانة كرمة الشرقية تم الكشف عن مدافن لـ "المجموعة الثالثة" بالقرب من مدافن كرمة النمطية. بالتالي كان هناك قدر من الوجود المتزامن للمجموعتين قبل أن يصل أهل المجموعة الثالثة الى درجة أعلى من الاستقلالية فى منطقة الشلال الثاني Bonnet,1982. قد يفسر ذلك وجود هياكل زنجية فى مدافن المجموعة الثالثة.
رغم هيمنة الجيوش الفرعونية ورقابتها فقد تمكن أهل المجموعة الثالثة من تدعيم أنفسهم فى النوبة السفلى وتطوير ثقافة أشبه بثقافة كرمة. خلال فترة كرمة الكلاسيكية (1750-1500 ق.م.) تم التوحيد تحت سيادة كرمة. وجهة النظر هذه فيما يبدو تجد دعماً لها فى وجود قرى محصنة، مثل قرى أمادا ووادي السبوع وبوجود مقابر كرمة المنتشرة فى المنطقة. فى حين أنه والى الجنوب من الشلال الثاني شكلت مملكة كرمة نفسها المنطقة العازلة، فإن المجموعة الثالثة شكلت احتمالاً العازل فى الشمال. القوة العسكرية لمملكة كرمة (المسماة أيضاًُ مملكة كوش) مثلت مصدراً لقلق مصر، التى أقامت حاجزاً، فى شكل عدد من الحصون فى منطقة الشلال الثاني. باستغلال النزاعات الداخلية فى مصر نحجت مملكة كرمة فى توسيع رقعتها خلال المرحلة الانتقالية الثانية (1674-1553 ق.م.).
عنصر جديد وجد فى مدافن "المجموعة الثالثة" تمثل فى ظهور رسوم للأبقار. على مدى حوالي 1000 سنة انحصر فنهم التخطيطي فى تصوير الأبقار على الحجر، والمسلات الجنائزية، والفخار. أولئك الذين يقولون بفكرة الهجرة استخدموا هذا العنصر الجديد أساساً رئيساً لاطروحتهم. يقول الادعاء، بأنه فى حين اعتمد اقتصاد "المجموعة الأولى" فى الأساس على الزراعة، فإن اقتصاد "المجموعة الثالثة" اعتمد على تربية القطعان. وتجرى المجادلة لتقول بأن هذا يعني أن أهل "المجموعة الأولى" كانوا فلاحين مستقرين، فى حين أن أهل "المجموعة الثالثة" كانوا رعاة مراحيل، وبالتالى فإن المجموعتين مثلتا شعبين مختلفين.
البينة المأخوذة من البقايا العظمية تشير على، أية حال، الى قصة مغايرة. يشير اكتشاف عظام الأبقار، وجلودها، مقابرها فى العديد من مواقع "المجموعة اولى" الى أن الرعاوة، كانت تمثل فى الواقع جزءاً هاماً فى اقتصادهم خلافاً للاعتقاد السائد سابقاُ حول عدم ممارستهم الرعي.
عند هذه النقطة أود أيضاً أن افترض بأنه وفى الفترة السابقة لتوحيد مصر العليا والسفلى كانت العلاقات بين المصريين وأهل المجموعة الأولى، وفقاً للبينة الآثارية، جيدة أو، على الأقل، لم يشكل المصريون وجوداً مهدداً كما أصبحوا فى أزمان لاحقة. فى الحقيقة تشهد مواقع المجموعة الأولى على درجة عالية من الاستقرار، الذى يمثل مؤشراً على قدر من الهدوء، ويشير توفر العديد من الموضوعات المصرية على وجود علاقات تجارية عادية، وبالتالي، احتمال علاقات ودية. تصل ثقافة المجموعة الأولى أوجها بنهاية الفترة الجرزية (حوالي 3050-3300 ق.م). بدءاً من الأسرة المصرية الأولى (3050 ق.م) لا تتوفر لدينا أية معلومات عن ثقافة المجموعة الأولى. هناك بينة دالة على نقصان معدل فيضان النيل فى فترة الأسرة الأولى والذى يمكن ربطه بانخفاض الأرض التى تغطيها مياه الفيضان فى النوبة السفلى من حد أقصى 7-6 متر فوق المستوى الحالي: تم حدوث هذا الحد الأقصى بين 4000 و3000 ق.م. Wendt,1966. بينما تكون تلك الأحداث قد أثرت على النوبة السفلى أكثر من تأثيرها على مصر، فإنه يستحيل ارجاع الاختفاء الكامل للمجموعة الأولى فى النوبة السفلى كلياً لعوامل طبيعية. كما وليست هناك بينة صريحة عن نشاط عسكري مصري فى النوبة السفلى بعد الأسرة الأولى المبكرة.
قد يكون لتوحيد مصر انعكاسات سلبية على النوبة. فى كل الاحتمالات جسدت مركزية السلطة فى مصر تهديداً فى نظر النوبيين، فاسرعوا فى البحث عن حلفاء وسط جيرانهم الجنوبيين الذين كانوا فى تلك الفترة قد شرعوا فى تأسيس دولة قوية. يمكن أن يكون فى هذه الحقيقة تفسيراً للتعايش لفترة محددة بين "المجموعة الثالثة المبكرة" وكرمة القديمة. استمر هذا التعايش حتى تراجع المجموعة الثالثة الى النوبة السفلى، حيث لم يعودوا يمارسون، على الأقل فى البداية، حياة الاستقرار التى ميزت المجموعة الأولى. على العكس، بدأوا فى اتباع وجود بدوي اتخذ من الرعاوة قاعدة اقتصادية له (مسلات الثيرات ترجع للمجموعة الثالثة المبكرة Steindorff,1935).
ترجع أهم مواقع اقامة المجموعة الثالثة التى تشير بوضوح الى حياة استقرار للمرحلة الانتقالية الثانية، أي، فترة توحيد النوبة تحت سلطة مملكة كرمة.
نظرية الهجرة
أما فيما يتعلق بنظرية الهجرة، فإن بعض الباحثين يجدون فى هذه الثقافة الجديدة عناصر كانت مفقودة فى ثقافة المجموعة الأولى، ومن ثم يفترضون أن التجديدات جلبت الى النوبة بفعل هجرة وافدة. وبالنسبة للمنطقة التى قدمت منها الهجرة فقد طرحت العديد من النظريات.
وفقاً لفيرث، تحركت الهجرة من الصحراء الشرقية أو من منطقة نهر عطبرة. وطابق مردوخ "المجموعة الثالثة" بالبجة سكان الصحراء الشرقية وافترض بأنهم هم الذين أدخلوا حلب اللبن الى المنطقة. ورأى بأن سكان النوبة السابقين كانوا قد أخذوا تربية الحيوانات من المصريين ونقلوها بدورهم الى جماعات أخرى قامت هذه الأخيرة بنقلها الى غرب أفريقيا. وتقبل يونكر نظرية الأصل الحامي، الشرقي للمجموعة الثالثة. ومن جانب آخر فإن كل من بيتس، وكيروان، وايمري يؤيدون فكرة الأصل الغربي، تحديداً الليبي للمجموعة الثالثة. إلا أن العناصر الثقافية المشتركة بين المجموعة الثالثة والليبيين تتكون من عناصر منتشرة بصورة واسعة فى شمال أفريقيا، بالتالي، فإنها لا تقدم برهاناً على أصل مشترك للثقافتين. بعض تلك السمات المشتركة تتمثل فى : عبادة الأبقار، واستخدام التنورات النسائية التى تصل الى الركبة مع ثنيات واسعة، والشبه التشريحي، والتشابهات فى أوضاع الدفن. وأشار أركل الى التشابهات بين المجموعة الثالثة وثقافة خور ابوعنجة فى امدرمان، على أساس الفخار الأسود المنقوش. فيما بعد أظر آركل العلاقة بين مصنوعات وادي هور الفخارية، فى الصحراء الغربية، مع المصنوعات الفخارية النوبية. واكتشف شو بعض الرسوم الصخرية فى وادي حسين؛ وأعطت المنطقة نفسها صور أبقار نقشت بخطوط عمودية فى الجسم، شبيهة بتلك المصورة فى الرسوم الصخرية وفى جدران الأواني الفخارية فى النوبة السفلى. بالمثل هناك الكثير من التشابهات بين ثقافتي المجموعة الثالثة والمدافن البان، وقد تأصلت الأخيرة فى الصحراء الشرقية. حاول آركل تفسير التشابهات بين تلك الثقافات بوصفها نتاجاً لسلسلة من الهجرات. وافترض آركل، منطلقاً من تكهن بأن أصل الثقافات النوبية الوسيطة يقع فى مكان الىالغرب من النيل، أن الجفاف المتزايد دفع بأولئك الناس الى وادي النيل خلال المرحلة الانتقالية الأولى. لاحقاً ومع تزايد التصحر الذى أصاب المراعي القريبة من النهر، هاجر بعض رعاة المرحلة النوبية المتوسطة عبر وادي العلاقي الى الصحراء الشرقية Trigger,1965.
لا توجد عناصر مؤكدة تسمح بتقييم مدى الموثوقية المطلقة لكل تلك الآراء. لكنني أعتقد أنه من المستحسن، وفقاً للبينة المتوفرة، التشديد علىنظرية الاستمرارية بين المرحلتين النوبية المبكرة والمتوسطة.
المصادر
مصادر المعلومات عن المجموعة الثالثة، كما هو حال التاريخ النوبي، يمكن تقسيمها الى كتابية (مصرية) وآثارية (البحث الميداني). من بين النوعين فإن السجلات الكتابية ظلت متوفرة منذ مدة أطول. انها وثائق تشهد على ارسال الحملات. تركت تلك الحملات بصمات عبورها فى الرسوم الصخرية، وفى وجود موضوعات، قيمة وثمينة قدمت مبادلة بمنتجات محلية، فى المدافن، والمعابد، وفوق ذلك فى بقايا مواقع الاقامة.
الوثائق يمكن أن تكون ملكية أو خاصة، لكن حتى الأخيرة تشير الى حملات ينظمها القصر والتى، حتى وإن لم يكن لها هدف عسكري، لا بدَّ من تنظيمها بصورة جيدة ودعمها بقوات تؤمن سلامتها وسط شعوب غير معروفة Bongrani Fanfoni,1991
تبعاً للبحث الآثاري الذى أجرى فى العقود الأخيرة، قسم المتخصصون الثقافة النوبية الوسطى الى أربعة أطوار. الطور الأول، أو النوبى الأوسط 1، المطابق للملكة المصرية القديمة والمرحلة الانتقالية الأولى (حوالي 2626-2040 ق.م.). الطور الثاني، أو النوبي الأوسط 2، معاصر للملكة المصرية الوسطى (1040-1674 ق.م.). الطور الثالث يتطابق مع المرحلة الانتقالية الثانية (1674-1553). النوبي الأوسط 4 هو الثقافة التى ظلت باقية فى عصر الدولة المصرية الحديثة (1552-1096 ق.م.)
النوبى الأوسط 1
من بين النصوص التاريخية فإن أقدمها يعرف باسم حجر باليرمو. تذكر هذه الحولية أنه خلال حكم سنفرو (2625 ق.م.)، أرسلت حملة الى النوبة اشتبكت فى معركة نتج عنها أسر 7.000 أسير و200.000 رأس ماشية. يمكن للمرء أن يجادل بأن النوبة السفلى كانت مأهولة بعدد كبير من السكان من الرعاة (ينتمون الى المجموعة الثالثة). فوق ذلك، طالما أن سنفرو أمر ببناء مراكب، فى عين المكان، يمكننا أن نستنتج بأن البيئة كانت ملائمة لنمو أشجار ضخمة.
يبدو أن خمسة نقوش عثرت عليها البعثة الأسبانية فى منطقة خور العاقبة فى عام 1964، على بعد كيلومترات قليلة الى الجنوب من توماس لكن على الضفة الشرقية، تشير الى أن حملة سنفرو كانت موجهة الى النوبة السفلى. نقشان من تلك النقوش يتناولان الحملات المنظمة للبحث عن الحجارة الثمينة والمعادن، وسجل نقشان آخران الحملات العسكرية - "قدم حاكم ولاية سينوبولي خباوبيت بجيش مكون من 20.000 رجل لسحق الواوات". أرخ لوبيز النقش بنهاية الأسرة السادسة (2200 ق.م.). أثبتت دراسة أكثر حداثة أجراها هيلك Helck,1974، أن النقش مع آخر مثله وجد بالقرب منه، لا يمكن أن يكون أقدم من الأسرة الخامسة (2510-2460 ق.م.). يصل هيلك الى هذا الاستنتاج على أساس أن اسم الشخص مميز للأسرة الثالثة وبداية الأسرة الرابعة (2625 ق.م.).
النقش التالي له يشير الى أن المصريين لم يبحثوا فحسب عن المعادن فى النوبة بل عن قوة عمل والتى، فى تصور هيلك، يمكن استخدامها فى رعي الأبقار، والتى نهبت فى معظمها من النوبة نفسها - "حاكم القطاع الشمالي للولاية الغربية ساويب، أسر 17.000 نوبي". تشير الأعداد الهائلة من الأسرى النوبيين، التى يشهد عليها حجر باليرمو ووثائق خور العاقبة، والأعداد الكبيرة للقوات المصرية المشتركة فى الحملات العسكريةالى وجود أعداد كبيرة من السكان. فوق ذلك، لا بدَّ وأن يكون السكان قد تألفوا من رعاة طالما أن الغنائم التى استولت عليها الحملة تألفت فى معظمها من أعداد هائلة من المواشي. يبدو أن العلاقات بين المصريين والنوبيين فى هذه الفترة كانت عابرة وعدائية. على أية حال، خلال فترة الأسرة الخامسة أصبحت تلك العلاقات أكثر تواتراً و، كما تشير إليها روايات الأشخاص الذين اشتركوا، سلمياً بصورة أساسية، حتى أزمان مرنرع. ان الكشف عن بعض الأختام فى مدافن المجموعة الثالثة ودرسها بيتري وأرخها (1925)، رغم أنها ليست بمصادر بالمعنى الكامل للكلمة، تستوجب الاشارة لها. تم تأريخها من الأسرة الرابعة حتى المملكة الوسطى.
من روايات الرحالة المصريين بدءاص من عهد بيبي الأول وما بعده، نعلم بأن السكان المستقرين فى النوبة لا بدًّ وأن أعدادهم كانت كبيرة ومنظمين، إذ يتحدث أوني عن قبائل كان يحكمها أمراء (خيكاو). حكم أولئك الأمراء فى مناطق من الواوات، وارتت، وساتيو، وكاو، ويام. كانت يام الأبعد جنوباً بالنسبة للحملات التى نظمها حكام أسوان، وكبار الموظفين الآخرين. جلبوا معهم من هناك الأبنوس، والزيوت، وجلود النمور، والعاج وأشياء أخرى مرغوبة لدى المصريين.
فى عهد الأسرة الأخيرة للملكة القديمة بدأت حالة ضعف تصيب سلطة الفراعنة. نتج عن ذلك تحولات فى العلاقات مع النوبة أيضاً. فى الواقع فإن نقش سنفرو يتحدث عن 7.000 عبد و 200.000 رأس من المواشي جلبت من النوبة، فى حين يتحدث نقش حرخوف عن مفاوضات متعثرة مع الحكام النوبيين. كان النوبة تمر بتطور تنظيمي- سياسي : سيطرت الواوات على ارتت وساتيو.
يحتمل أن يكون نهوض مملكة كرمة فى سهل دنقلا قد أسهم فى أزمة مصر فى النوبة؛ وجهة نظر أوكونور O’Connor,1993 مثيرة ولافتة للانتباه. ففى رأيه أن مملكة يام القوية فى إقليم بربر- شندي، وتوحيد ممالك الواوات وارتت وساتيو، نجم عنها نشؤ مملكة تمتد من النوبة السفلى حتى إقليم دنقلا. البحث الحديث الجاري فى كرمة ينحى الى دعم هذه الفرضية، لكن المزيد من البحث يظل أمراً ضرورياً لتأكيدها. خلال المملكة القديمة، حتى الأسرة الحادية عشرة، فإن وجود النوبيين فى مصر أمر موثق جيداً. النوبيون، الذين تم استخدامهم جنوداً مرتزقة، سميوا، طبقاً للنصوص المصرية، بـ عاو؛ هكذا نرى عاو يام، بالتالي من النوبة العليا، وعاو الواوات والمدجاو، بالتالي من النوبة السفلى Bongrani Fanfoni in press. نجدهم فى دهشور، مشتغلين ضمن قوة شرطة يحرسون هرم بيبي الأول. بعضهم كان جزءاً من نخبة تحت قيادة ضابط مصري. آخرون سميوا نحسيو حتب "النوبيون المقدمون" (أي الرهائن)، يبدو أنهم كانوا جزءاً من قوة شرطة أدنى مقاماً مسئولة عن جمع الضرائب.
على كل فإننا نمتلك وثيقة توضح كيف تم التعامل مع النوبيين بصورة عدائية من قبل المصريين. تلك الوثيقة هى ما يعرف باسم "نصوص اللعنات"، التى وجدت فى جبانة الجيزة، ويرجع تاريخها الى الأسرة السادسة. انها نصوص كورسيفية (كتابة متشابكة)، كتبت بالهيراطيقية على تماثيل صغيرة لأناس قيدت أيديهم خلف ظهورهم، أو على أواني فخارية هشمت عن قصد. تم العثور على 400 قطعة. من بين الناس المذكورين كانت غالبيتهم من النوبيين.
الى جانب وجودهم فى دهشور، فقد وجدت آثار لهم فى مصر العليا، فى الأماكن الآتية : محاجر حتنوب، بالقرب من هرموبوليس، وفى وادي الحمامات، ونقادة، ودندرا، والجبلين، وأسيوط، وتيبى. فى بيئة مصر العليا يظهر أن الأجنبي الذى يأتي من الجنوب يجد ظروفاً تختلف، مساعدة أكثر مما هو عليه الوضع فى دهشور. مثل تلك الظروف عملت لمصلحة امتصاصهم من قبل الثقافة المحلية. ما يثبت ذلك الأسماء المصرية التى تبنوها هم وأبناؤهم. فى الوقت نفسه احتفظوا بروابط قوية بثقافتهم الأم. فى هذا المحتوى لا بدَّ من ذكر المدافن البان التى وجدت فى مصر، والتى سبق ذكرها. فى تلك المدافن فإن وضع الجثمان، ونوع القرابين، والقرابين الحيوانية خارج القبر، كلها تشير الى تناظر مع ثقافة المجموعة الثالثة.
خلال هذه الفترة عاش أهل المجموعة الثالثة فى النوبة السفلى مع اقامات كبيرة فى فرس، وعنيبة، ودكة. كما نرى من الاقامات، يبدو أن أهل المجموعة الثالثة كانو فى البداية بدو. فى سيالا فى الواقع Bietak,1986 وجدت سقائف على سطوح الصخر، كانت مصنوعة من الحصائر أو جلد الحيوان. حفظت الأبقار فى أطواق حجرية بيضاوية. كان المركب واسعاً بما يكفي لحفظ أعداد كبيرة من الحيوانات أثناء الليل. كانت فترة الاقامة هنا قصيرة. أوضحت البقايا العظمية أن الأغنام كانت قاعدة الاقتصاد. على أية حال، انحصرت التصاوير الفنية على مدى ما يقرب من الألف سنة فى رسوم الأبقار كما ذكرنا قبل. الى جانب ذلك فإنهم دفنوا نماذج من الأبقار وفى حالات ذبحوا الأبقار فى جباناتهم.
يمكننا أن نستنتج بأن الأبقار متوفرة بما يكفي لتصديرها. فى الحقيقة يعزز ذلك نقش حارخوف وبيبي ناخت، من ألفنتين، والذى يعلن بأن الزعيمين استوردا أبقاراً، وخرافاً، وغنماً. كانت ملابسهما أيضاً من الجلود - ويشير تحليل الشعر أن الجلود كانت فى الأساس جلوداً للثيران.
نعلم أن السكان خطوا ملابسهم بطريقة بسيطة لكن، فى الوقت نفسه، جيدة الصنع وغنية بالعناصر الزخرفية والألوان. استخدمو جلد الأغنام لصناعة الصنادل. أما بالنسبة للعادات الجنائزية، فقد وضع الجثمان على جانبه الأيمن فى وضع أشبه بالمقرفص، مع اتجاه الرأس نحو الشرق.
تألف الفخار الذى عثر عليه فى الجبانات فى الأساس من أطباق ذات حواف فوقية سوداء شبيهة بأطباق المجموعة الأولى مع وجود فخار أسود محزز كتب له الاستمرار على امتداد هذه الثقافة. استخدم روث الحيوانات فى عملية تجهيز الفخار. وجدت مرآيا فى المدافن، رغم ندرتها. توجد الأختام، والقلادات من الفايانس، وحجارة أخرى بتواتر أكبر.
النوبي الأوسط 2
شيد المصريون سلاسل من التحصينات فى منطقة الشلال الثاني. بنيت تلك التحصينات من ثلاث أجزاء رئيسة: قلعة محصنة، ومدينة الى الأسفل من القلعة، وميناء وملحقات للقلعة.
تظهر نقوش امنمحت الأول، وسنوسرت الأول، والوزير أنتي فوكر، أن المصريين كانوا يواجهون عدواً قوياً، وفقط بفعل حملات عسكرية مكثفة، استمرت على مدى عشرين عاماً، تمكنوا من تثبيت سيطرتهم. فى الحقيقة، تتمثل أكثر مصادر المعلومات قيمة التى نجدها فى مؤسسات النوبة السفلى فى هذه الفترة فى النصوص المصرية، والمسلات الملكية الرسمية، والنقوش المنحوتة على الصخور، والصروح الجنائزية، والتماثيل والأرشيف. مصدر آخر لا يجوز اهماله يتمثل فى الأختام. البينة التى توفرها تلك الوثائق تشير الى أن السلطة مورست من قبل طبقة عسكرية، شغل أفرادها العديد من المناصب الإدارية. الألقاب ذات المضمون العسكري تتكرر 306 مرة، مقارنة بـ 266 مرة للألقاب الإدارية والشرفية، و19 مرة للألقاب الدينية، و24 مرة للقب سيدة المنزل Gratien,1995. بالتالي فإن تلك القلاع لم تك فقط أماكن لتجميع المواد الترفية والمواشي، ولا منشئات دفاعية فقط لصد الكوشيين، الذين أصبحوا منظمين أكثر فأكثر، ولا ضد غزوات البدو الذين قد يعيقون العمليات العسكرية المصرية فى النوبة، لكنها فوق كل ذلك أقيمت للسيطرة على سكان محليين.
لا بدَّ وأن السكان النوبيين قد شكلوا خطراً حقيقياً للمصريين، كما تشهد عليه أيضاً نصوص اللعنات من تلك الفترة والتى عثر عليها فى مرجسا.
كان الاحتلال المصري قسرياً. لقد اتضح، بفضل العمل الذى أجري فى مرجسا وأسكوت، أن هنرت hnrt، أي العمل القسري، كان سائداً فى النوبة خلال هذه الفترة. يحتمل أن يكون أولئك الذين اخضعوا للعمل القسري بهذه الطريقة، فى الواقع، هم النوبيون. مع ذلك، ظلوا يحتفظون باستقلاليتهم رغم ذلك، واستمروا يصونون مجتمعهم القبلي المساواتي.
يبدو أنه فى هذه الفترة شهد النمو السكاني زيادة كبيرة واستمرت عملية الاستقرار لأهل المجموعة الثالثة طيلة امتداد هذا الطور الثاني، حتى وإن لم تك تمثل فترة للازدهار الأقصى. العديد من مواقع اقامات المجموعة الثالثة لهذه الفترة تم الكشف عنها. تألفت المواقع من مساكن، شيدت جزئياً بجدران حجرية. وجد نوعان من المساكن : مبان دائرية أُحادية الغرفة، وتكتل غرف ذات ميل بسقف مدعوم بمركب أعمدة. وجدت داخل تلك المساكن مبان مستطيلة لحفظ الدواب وأعمدة أوتاد للحيوانات المنزلية.
القرى والجبانات التى وجدت فى عنيبة، وفرس، ودكة، لا تبدو أنها كانت كبيرة. المباني الفوقية للمقابر كانت أعرض وأكثر انخفاضاً من ذي قبل. كانت حفر المقابر مستطيلة فى العموم وفى حالات خططت وغطيت بألواح حجرية ضخمة. عادة ما يكون الجثمان مقرفصاً، على جانبه الأيمن، متجهاً نحو الشمال أو الغرب، وتتكئ الرأس عادة على وسادة من القش. نعلم من تلك المكتشفات الجنائزية عن ملابسهم؛ صنعت من جلد ينتج محلياً. لبس الرجال تنورة تصل الى الركبة، وصندل، وغطاء رأس. بالنسبة للفخار، كان هو نفس فخار الطور السابق، لكن أضيفت جرار كروية حمراء الى ذخيرة الأواني المحلية. دفنت مع المتوفى تماثيل طينية تمثل نساء ومواشي. شكل الرعي بصورة أساسية قاعدة الاقتصاد المعيشي لهذه الفترة. الى جانب ذلك بدأ المصريون فى التنقيب عن الذهب فى وادي العلاقي ووادي قبقبة. كان الذهب النوبي عنصراً اقتصادياً هاماً لمصر. يصعب تصور أن يكونالنوبيون قد تقبلوا هذا الوضع. سجلت العديد من مناسيب النيل السنوية المرتفعة فى الكثير من النقوش المنحوتة على ضفتي النيل فيما وراء شلال سمنة (الثاني). معظم تلك النقوش يرجع تاريخها لعهد أمنمحات الثالث، لكن هناكأخرى من عهدي أمنمحات الرابع والملكة سوبكنفرو، آخر حاكم فى الأسرة الثانية عشر، وسخمري- خوتوي وشخمكاري، أول ملكين للأسرة الثالثة عشر (1790- 1785).
دمرت تلك المناسيب العالية للنيل المنشئات المصرية فى النوبة. تتناقض تلك المعطيات مع بعض الرسائل المبعوثة من القلاع المصرية والتى تشهد على أنه بنهاية الأسرة الثانية عشر وقعت انتهاكات من جانب النوبيين فى المنطقة التى يسيطر عليها المصريون. برر النوبيون تلك الانتهاكات بضرورة اقترابهم من النيل، واجبروا على ذلك بفعل الجفاف والمجاعة. يحتمل أن تكون مثل تلك الانتهاكات قد وقعت لكن لأسباب أخرى، طالما أن مستوي الفضانات العالية المبينة أعلاه لا تبرر فى الحقيقة اقتراب النوبيين من النيل. يحتمل، بدلاً، أن هذا الانتهاك للمنطقة المصرية توافق مع ضعف السلطة المصرية فى النوبة، نتيجة مشاكل فى سياسة مصر الداخلية، بل أيضاً لقوة كوش المتنامية، والتى أخذت تدريجياً فى غزو النوبة السفلى، لتبدأ فترة تعايش سلمية. احتل الكوشيون كل الواوات واستقروا فى القلاع المصرية.
النوبي الأوسط 3
أجليت الحاميات المصرية من النوبة بنهاية الأسرة الثانية عشر. خلال فترة الأسرة الرابعة عشر استقر الهكسوس، وهم ملوك من أصل ىسيوي، فى الدلتا. وكانو، مثلهم مثل التابعين لهم، يدفعون لملك كوش للمرور فى النوبة، وهو ما يمكن استنتاجه من المكتشفات فى جبانات النوبة السفلى. نعلم من أحدث نتائج أعمال التنقييب الجارية فى كرمة أنه خلال المملكة الوسطى وجدت مؤسسات فى كرمة وكانت هناك ادارة حكومية أشرفت على توزيع السلع فى مجمل النوبة، حتى مع محدودية معرفتنا، لفهم طبيعة هذا التنظيم. وبما أن مواقع النوبة السفلى قد دمرتها مياه بحيرة ناصر الى حد كبير، فإنه من الضروري تطوير بحثنا فى مواقع النوبة العليا.
تاريخ النوبة السفلى خلال المرحلة الانتقالية الثانية غير واضح بصورة كاملة. فى هذه الفترة تزايد عدد السكان بصورة ملحوظة - انعكس ذلك فى توزيع الاقامات ليس فقط فى المناطق الغنية لكن أيضاً فى الفقيرة منها. أصبح المجتمع أكثر تعقيداً وتراتباً مما كان عليه سابقاً، مع وجود مدافن غنية على أطراف جبانات المجموعة الثالثة. بلغت بعض المدافن فى عنيبة 16 متراً فى الارتفاع. بنيت الغرفة الرئيسة عادة بقبو من الطوب غير المحروق، على الطراز المصري. ضمت المدافن الكبيرة الخاصة بالطبقة العليا مصلى من الطوب غير المحروق فى الجانب الشمالي للبنية الفوقية، وهى عادة أدخلت عن طريق ثقافة كرمة. كذلك فإن وضع الجثمان مدفوناً على عنقريب، يشير بقوة الى تأثير كرمة على النوبة السفلى. تأثيرات أخرى تأتي من ثقافة المدافن الدائرية Pan-Graves، كما يتضح ذلك فى جماجم الثيران القرابين. الأسلحة غير مشهودة بكثرة، لكن توجد بعض الفؤوس البرنزية. إنها موجودة فى المدافن السابقة.
بالنسبة للفخار، تستمر مصنوعات الطور السابق، لكنها تبدو أفقر فى المدافن البسيطة. ادخال جديد تمثل فى جرة مع أنماط هندسية محفورة، وجدت فى الأساس فى المدافن الغنية.
القرى فى هذا الطور تحتوي على مركبات مساكن بجدران خارجية محيطة، فى حين أنشئت قرى المجموعة الثالثة المحصنة فى وادي السبوع على قمة تل محمي من الشرق بصخرة منحدرة باتجاه النهر، وفى الجانب الآخر، بسور شبه دائري شيد من كتل حجرية خشنة.
تمتع النوبيون بالتالي بازدهار خلال المرحلة الانتقالية الثانية. وزاد عدد سكان النوبة السفلى وازدهرت حركة التجارة مع مصر. ودخل النوبيون فى حركة تجارية نشطة تبادلوا من خلالها السلع وتحصلوا على المكوس عن تجارة العبور. استمر هذا الوضع عندما كانت الواوات خاضعة لكوش. قوت عائدات التجارة وضعية الزعماء المحليين، واحتمالاً أيضاً رجال الأعمال، مما نتج عنه مجتمع محلي أشد تعقيداً عما كان عليه سابقاً. وساعد الازدهار المتزايد على تمصير المجموعة الثالثة. نعرف من النصوص أن كل فترة الاحتلال المصري فى المملكة الحديثة تميزت بمحاولة الكوشيين لتنظيم أنفسهم وأن يوحدوا صفوفهم مع أهل النوبة السفلى والبجة ليقاوموا الاضطهاد والاستغلال.
رغم الاحتلال المصري، استمرت ثقافة المجموعة الثالثة بعد منتصف السرة الثامنة عشر. عبرت السلطة المصرية عن نفسها عن طريق إعادة بناء قلاع ومدن المملكة الوسطى، وكذلك بناء المعابد الكبيرة. أصبحت تلك المعابد- المدن مراكز للحكم، ولنشر الأيديولوجية الملكية المصرية والدعاية لها.
أصبح نائب الملك فى كوش بديلاً لذات السلطة الفرعونية، ويتم تعيينه مباشرة من قبل الفرعون. رغم وجود المصريين فى النوبة خلال المملكة الحديثة، فإنه لا يبدو وجوداً استعمارياً. فنائب الملك يجد مساعدة من رسميين نوبيين يسمون "ادينو idenw" يقوم بنفسه بتعينهم. نعلم عن ثلاثة "ادينو" للواوات وستة لكوش فى عهد توت- غنخ- آمون. فى هذهالفترة أرسل أعضاء أسر الأمراء القديمة الى مصر لتلقي التعليم والعودة الى موطنهم لشغلمناصب حكومية مهمة. الاحتلال المصري لم يجلب الى النوبة سوى القليل من المهاجرين: كبار موظفي الخدمة المدنية والعسكريين والكهنة. لكن الاحتلال ترك التراتب الاجتماعي الأصلي دون مساس. تشير صروح أسر الأمراء المحليين فى تيخيت فى النوبة السفلى الى أن مناطق المشيخات المحلية شكلت وحدات حكومية، وتم ضم الرعماء المحليين الى الهيراركية المصرية. رغم تبعيتهم لنائب الملك، فإن الأمراء المحليين تبوءوا مواقع موروثة وفقاً لتقاليدهم الخاصة Török,1995.
نعلم أنه بالرغم من ان المعابد- المدن سيطرت كلياً تقريباً على الأرض والمنتوج الزراعي، فإنه لا يوجد شك فى أن الأمراء المحليين كانوا ملاكاً للأرض، ويشير نص هبة بينوت الى أن النخبة كانت لها ممتلكات خاصة الى جانب ماتمتلكه بفضل المراكز التى تحتلها Morkot, 1995.
نشبت مجادلة حادة بشأن هذه المسألة إذ أن البينة الآثارية لهذه الفترة لا تتوافق مع السجلات المكتوبة. تحتوي جبانات هذه الفترة على مدافن تظهر مزجاً لثقافات المجموعة الثالثة والمقابر الدائرية وكرمة. مدافن أخرى كانت ذات تصميم مصري، بحفرة مستطيلة، محفورة فى الصخر أو فى التربة الغرينية. المدافن الأكثر ثراء لها غرفة تحت أرضية أو كوة جانبية لدفن الجثمان. وضع المتوفى على ظهره أكثر من الوضع على جانبه، وفى المدافن الأكثر ثراء يوضع الجثمان فى تابوت خشبي. أطباق الأكل تم العثور عليها فى المدافن بالاضافة الى موضوعات الزينة وأدوات أخرى. ليس هناك اثر لطقوس دفن أو عقيدة دينية مصرية. غياب مسلات، وتماثيل جنائزية (شوابتي)، وتماثيل، وجعارين، وتخليد اسم المتوفى بأي شكل، كل ذلك يشير استمرارية المعتقدات المحلية.
الاعتقاد المصري فى حياة ما بعد الممات تم تبنيه،فيما يبدو،من قبل أفراد النخب النوبية المتمصرة التى تلقت تعليماً مصرياً. يبدو أن معظم تلك المدافن تعود تاريخاً الى الأسرة الثامنة عشر، فى حين تميز النصف الثاني للملكة الحديثة بغياب الجبانات. هناك وجهة نظر ترى بأن انخفاضاً فى أعداد السكان نتج عن ظروف مناخية. وجهة النظر هذه تنكر المعطيات النصية ورسوم المعابد والمدافن من المملكة الحديثة، التى تظهر وضعاً مغايراً. فى كل قوائم الجزية النوبية من عصر المملكة الحديثة، بخاصة فى حوليات تحتمس الثالث أو بردية هاريس، هناك وجود مشهود لكميات كبيرة من المواشي، والمنتجات الزراعية والأخشاب. فوق ذلك يشهد استيراد الأبنوس على منطقة تتميز بمناخ استوائي رطب. لدينا تأكيد آخر لهذا الوضع خلال العهد الطويل لرمسيس الثاني. وجود مناطق معتبرة مأهولة تشهد عليه قوائم المراكز الحضرية المسجلة فى العديد من المعابد التى شيدها الملك فى النوبة السفلى. فخامةتلك المعابد، بالتالي مجتمع كهنوتي منظم له صلاحيات ادارية ويقوم بجمع الجزية النوبية، يشير الى أوضاع مناخية جيدة.
كيف يمكننا أن نفسر غياب معطيات آثارية؟ لا تفسر فرضية التمصير ندرة المعطيات الآثارية. لا يمكن قبول أي من المقترحات التى طرحت بصورة موثوقة. لكنني أعتقد أن واحدة من وجهات النظر المعقولة هى التى تقول بأن الاحتلال المصري قد أحال جزءاً من السكان النوبيين الى العبودية، كما تؤكد عليه بعض النصوص. شكلت الضرائب عبئاً ثقيلاً على السكان ومثلت ضربة جدية للاقتصاد القبلي المحلي. بالتالي أضطر الناس الى الهروب باتجاه الجنوب، حيث كانت االامبراطورية الكوشية حينها آخذة فى الظهور. نوبيون عديدون آخرون تم استخدامهم عمالاً فى مناجم الذهب، الذى تتطلب استغلاله عملاً هائلاً أودى بحياة الكثير من الناس. كما وأن الكثيرين استخدموا فى رعاية قطعان المواشي فى ممتلكات المعابد- المدن. آخرون من النوبيين تم استيعابهم فى الجيش المصرى أثناء الحروب الآسيوية.
مع ذلك بقيت الثقافة المحلية حية بخاصة وسط الطبقات الفقيرة فالجبانات المتأخرة التىتم الكشف عنها ضمت مقابر بسيطة، بدون بنيات فوقية حجرية، وبمحتويات جنائزية فقيرة للغاية.
أما بالنسبة للنخب المحلية فإنهم اجتازواأزمة انهيار نظام نائب الملك وحافظوا على سلطاتهم. كذلك بقيت بعض الاقامات الحضرية المصرية.كل تلك العناصر، الى جانب تاريخ نائب الملك فى النوبة بنياسي، الذى أنشأ دولة نوبية مستقلة، تعطي مزيداً من التأكيد على أن النوبة السفلى لم تهجر بفعل عوامل مناخية، لكنها ازدهرت ونما كدولة عازلة بالنسبة للإمبراطورية النوبية الجديدة الناشئة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق