مخاطر على الدولة الناشئة
لما تولى المنصور الخلافة (من ذي الحجة 136هـ حتى ذي الحجة 158هـ) وضع نصب عينيه مخاطر ثلاث لا بُدَّ أن يقضي عليها:
1- منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر، وقد كان موكلاً بتدبير جيوش الدولة من أهل خراسان والشام والجزيرة والموصل ليغزو بهم الروم (وكان رغم جلالة قدره عند بني العباس لكنه كان قليل الحزم).
2- اتساع نفوذ أبي مسلم الخراساني، أحد أعمدة الدولة العباسية فكان أبو جعفر شديد الحنق عليه، لا يرضيه أن يكون له في الأمر شريك ذو سطوة وسلطان.
3- بنو عمومته من آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان، خاصة محمد بن عبد الله بن حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فخاف أبو جعفر أن يحاول الخروج عليه.
معالجته للخطر الأول
فأما الخطر الأول: إزالة عمه:
(يضرب عمه بأبي مسلم وأيهما زال فقد زال من طريقه).
كان عبد الله بن على ينتظر أن تؤول إليه الخلافة لما كان له من يد طولى في القضاء على ملك بني أمية، فلما جاء الخبر باستخلاف أبي جعفر المنصور خلعه وأعلن البيعة لنفسه.. فأرسل إليه أبو جعفر جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني فالتقوا عند حران ودارت معركة بين الفريقين لمدة ستة أشهر وظلت المعركة سجالاً ثم تحولت إلى أبي مسلم الذي انتصر، وفر عبد الله بن علي إلى البصرة عند أخيه سليمان فعلم بذلك أبو جعفر فبعث إلى أبي سليمان يأمره بإحضار عبد الله بن علي إليه، وأعطاه الأمان لعبد الله ما جعله يثق به، فجيء به إلى المنصور سنة 139هـ، فأمر بحبسه وحبس من كان معه وظل في حبسه حتى مات سنة 147هـ، وكانت هذه غدرة من المنصور.
معالجته للخطر الثاني
وأما الخطر الثاني: أبو مسلم الخراساني:
أراد أبو جعفر أن يصطاد أبا مسلم قبل أن يعود إلى خراسان بعد هذه المعركة، ولم يكن يريد أن يظهر لأبي مسلم مراده.
فكتب إلى أبي مسلم (إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان.. تكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب).
فغضب أبو مسلم، وقال: (يوليني الشام ومصر، وخراسان لي).
وعزم على عدم تنفيذ الأمر والعودة إلى خراسان.
قرر أبو جعفر استعمال الدهاء مع أبي مسلم وبدأت بينهما حرب مراسلات، حتى أرسل أبو جعفر إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي، في جماعة من الأمراء وأمره أن يكلم أبا مسلم بألين ما يكلم به أحدًا، وأن يمنِّيه فإن أبى قال له: (هو بريء من العباس إن شققت العصا، وذهبت على وجهك ليدركنك بنفسه وليقاتلنك دون غيره، ولو خضت البحر الخضم لخاضه خلفك، حتى يدركك فيقتلك أو يموت قبل ذلك).
وبالفعل يقابل الوفد أبا مسلم فيأبى أن يطيع، أو أن يأتي لمقابلة أبي جعفر، فيبلغاه الرسالة الأخيرة، وسبحان الله! فهذه الكلمات جعلت الجبار أبا مسلم يخنع ويجبن، ويزداد ترددًا وحيرة.
كما كتب أبو جعفر إلى خليفته أبي مسلم على جند خراسان يعطيه إمامه خراسان ما عاش.. كل هذه الضغوط جعلت أبا مسلم يقرر الذهاب لمقابلة أبي جعفر المنصور الذي تمادى في المكر فأعطاه الأمان، وأظهر له عند دخوله المدائن الاحترام والتقدير ومراسم الاستقبال، ولكنه كان عازمًا على قتل أبي مسلم غدرًا، وبالفعل قتله وهو يكلمه آمنًا على يد بعض حراسه.
روى البيهقي عن الحاكم بسنده أن عبد الله بن المبارك سئل عن أبي مسلم أهو خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرًا من أحد، ولكن كان الحجاج شرًّا منه، قد اتهمه بعضهم على الإسلام، ورموه بالزندقة، ولم أر فيما ذكروه عن أبي مسلم ما يدل على ذلك، بل على أنه كان ممن يخاف الله من ذنوبه، وقد ادعى التوبة فيما كان منه من سفك الدماء في إقامة الدولة العباسية، والله أعلم بأمره.
معالجته للخطر الثالث
الخطر الثالث: محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد:
فقد زعموا أن بني هاشم انتخبوه للخلافة وبايعوه بها في أواخر عهد بني أمية، وكذلك بايعه أبو جعفر المنصور فلما جاءت الدولة العباسية لم يف أبو جعفر ببيعته له، ولذلك لم يبايع محمد لأبي العباس ولا لأبي جعفر.. واستخفى في زمن أبي جعفر وظل أبو جعفر يجري تحرياته عن محمد فلما لم يعثر عليه اعتقل المنصور أباه وصادر أمواله.
ولا يزال المنصور يبحث عنه وأنفق كثيرًا من المال في هذه السبيل فلم يصل إلى شيء.. فاعتقل بني الحسن كلهم فلما علم محمد بذلك قال لأمه هند: (إني قد حملت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم فعسى أن يخلي عنهم). فتنكرت هند ثم جاءت السجن كهيئة الرسول فأذن لها، فلما رآها عبد الله أبو محمد عرفها فنهض إليها فأخبرته بما قال محمد فقال:(كلا بل نصبر، فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرًا، قولي له فليدع إلى أمره وليجِدَّ فيه فإن فرجنا بيد الله). فانصرفت، واستمر محمد على اختفائه.
فاستعمل معهم المنصور أشد أنواع العذاب ونقلهم إلى سجن بالعراق، ومات أكثرهم في الحبس.
نتيجة هذه الفظائع قرر محمد الظهور بالمدينة، وكان ذلك أول يوم من رجب سنة 145هـ، أعانه أهل المدينة وصعد منبر الحرم وخطب فيهم.
والحقيقة أنه كان من مكر أبي جعفر الخليفة أنه كتب إلى محمد على ألسنة قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه؛ مما جعل محمد يتوهم أن أغلب الأمصار معه، كما أن الحسن كان قد اتفق مع أخيه إبراهيم أن يظهر في نفس اليوم بالبصرة ليعظم ذلك على أبي جعفر ولكن أخاه مرض ولم يخرج.
كما أنه حصر نفسه بالمدينة وهي ليست بمركز حربي يمكن للقائد أن يبقى فيه للدفاع طويلاً فحياة المدينة من خارجها فلا تحتمل الحصار إلا قليلاً.. وقد كان فحوصرت المدينة ودبّر أبو جعفر أمره تدبيرًا محكمًا.
وتكررت تجربة ابن الزبير فقد انتقض الناس من حول محمد الذي قتل بعد أن أظهر شجاعة فائقة، وذلك في رمضان سنة 145هـ.
وبمقتل محمد استتب الأمر لأبي جعفر وتوطدت أركان الدولة الناشئة، فلم يعد هناك في الأفق مخاطر داخلية.
بناء بغداد
شرع المنصور في بناء بغداد كمقر للخلافة العباسية، وأتم بناءها سنة 146هـ.
وقالوا: إنه أنفق على بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، قال الخطيب البغدادي: لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها، وحشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم، حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهدالحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية، وأربى سكانها على مليونين.
ذكر ما جاء في وصف المنصور وخصائصه وأخلاقه
كان المنصور أعظم رجل من آل العباس شدة وبأسًا ويقظة وثباتًا، كان شغله في صدر النهار بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور، وأمن السبل والنظر فيالخراج، والنفقات، ومصلحة معاش الرعية.. فإذا صلى الظهر دخل منزله واستراح إلى العصر، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته ونظر في مصالحهم الخاصة، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والآفاق وشاور سُمّاره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه وصف محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
كان المنصور في شبابه يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه، فنال جانبا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله.
فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُملِ علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث. فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق وقطَّاع المسافات، تارة بالعراق وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث.
وقد ذكروا في مآثره وحلمه وعفوه وحسن تدبيره وتعهده ابنه المهدي وإعداده للخلافة مآثر طيبة، ولكن يؤخذ عليه غدره بأبي مسلم الخراساني وعمه عبد الله بن علي بعد أن أعطى كل واحدٍ منهما الأمان.
ذكر الفتوحات
لم تكن هناك فتوحات حاسمة في عهده، بل هي غزوات متكررة، بل ربما تجرأ الروم على المسلمين لانشغالهم بالصراعات الداخلية فهجموا على بعض الثغور، ودخل مَلِكُهم قسطنطين ملاطية عنوة وهدم سورها وتقدم في بلاد المسلمين.
ولكن لما انتبه المنصور وانتهت إلى حد كبير الصراعات الداخلية، عاد الغزو من جديد واستعاد المسلمون سيطرتهم من ناحية بلاد الروم.
كما بعث أبو جعفر ابنه المهدي لغزو طبرستان سنة 141هـ.
وفي سنة 151هـ شرع أبو جعفر في بناء الرصافة لابنه المهدي، بعد مقدمه من خراسان، وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وفيها جدَّد المنصور البيعة لنفسه، ثم لولده المهدي من بعده ثم لعيسى بن موسى من بعدهما.
موت أبي جعفر
مات أبو جعفر سنة 158هـ في طريقه إلى الحج، ودفن بمكة، وقد كتم الربيع الحاجب موته حتى أخذ البيعة للمهدي من قادة بني هاشم ثم دفن.
قالوا: وكان آخر ما تكلم به المنصور أن قال: "اللهم بارك لي في لقائك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق