|
|
لقد جعل الله عز وجل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، أي: به يقوم أمر الناس، وإذا أوشكت الدنيا على الانتهاء أذن الله عز وجل قدراً في هدمه، فمن أشراط الساعة بعد زوال الإيمان في الأرض كلها أن يهدم الكعبة ذو السويقتين وهو من الحبشة، وأما قبل ذلك فلا قوام للناس إلا ببيت الله الحرام، وبتوجه المتوجهين إلى هذه القبلة المشرفة، فكيف عمرت هذه البقعة؟ وكيف اتجهت إليها قلوب الملايين؟ فالملايين من الناس في كل عام يذهبون إلى هذه البقعة المشرفة وما حولها من البقاع المقدسة، لأداء فرض الحج الذي افترضه الله سبحانه وتعالى على الناس وأمر بأدائه، وجعله ركناً من أركان الإسلام, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). وقد عمرت هذه البقعة بدعوة مباركة من إبراهيم عليه السلام، إذ أمره الله عز وجل أن ينقل هاجروولدها إسماعيل بعد أن وقع شيء بينها وبين سارة التي صحبت إبراهيم عليه السلام في هجرته، والتي كرمها الله عز وجل بأن كانت من أول المؤمنين به، ورد الله عز وجل عنها كيد الملك الكافر عندما ذهب بها إبراهيم إلى مصر، فأراد الجبار أن يأخذها ويعتدي عليها، فقامت تدعو الله عز وجل، وظل إبراهيم عليه السلام بعيداً يدعو ربه سبحانه وتعالى، فكلما أراد أن يتناولها شُلَّت يده، وأخذت أخذاً شديداً، فيطلب منها أن تدعو الله له ويتركها، وفي الثالثة تركها وقال: إنما أتيتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان اذهبوا بها وأعطوها هاجر . فلما رجعت إلى إبراهيم قال: مهيم؟ فقالت: رد الله كيد الفاجر، وأخدم هاجر . وضربت سارة مثلاً في التضحية؛ إذ وهبت هاجر خادمتها التي وهبت لها لإبراهيم عليه السلام، وكانتسارة عقيماً لا تلد إلى ذلك التاريخ، فضربت مثلاً في التضحية والحب الحقيقي، وفي الطاعة لله عز وجل، فاتخذ إبراهيم هاجر سُرِّية، فولدت له إسماعيل ، فوقع في قلب سارة ما وقع، وكان الله عز وجل قد قدر تعمير بيته الحرام بإسماعيل عليه السلام وذريته، فأمر الله عز وجل إبراهيم أن يأخذ هاجرويهاجر بها إلى موضع مكة المكرمة. وفي هذا المكان القفر الذي لا أحد فيه لا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم عليه السلام هاجر وابنها الرضيع إسماعيل عليه السلام، وترك لهما جريب تمر، وشنة ماء -أي: قربة ماء-، وتركهما عند دوحة قريباً من موضع زمزم، ولم يكن قد بني البيت بعد، وإنما كان مثل الأكمة المرتفعة -أي: التل المرتفع- وتركهم وحدهم في هذا المكان الذي ليس به أحد، وليس فيه نبت ولا زرع ولا ماء ولا شيء على الإطلاق من مقومات الحياة، لكن الله عز وجل اختارها يوم خلق السماوات والأرض لتكون بقعة عبادته وتوحيده إلى آخر الزمان. إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمها الناس كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتبى الله تعالى هذه البقعة، وجردها سبحانه من مقومات الحياة الطبيعية، وقدر أن تكون أزحم بقعة على وجه الأرض بمن يعبد الله عز وجل، وهذه آية عظيمة من آياته.
|
|
|
إذ كانت هذه دعوة من إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. وفي الآية الأخرى قال تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126] فكانت الدعوة قبل تكون البلدة وبعد تكونها، وكان هذا الدعاء هو الذي غير وجه الحياة على ظهر هذه الأرض، والذي نشر الله عز وجل به التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، إذ من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه أن يكون هو الذي يرفع لواء دعوة التوحيد، وهي دعوة الأنبياء جميعاً في أرجاء الأرض كلها، وتكون أمته من بعده حاملة هذا اللواء، فتنشر توحيد الله عز وجل، وتعلن الكلمة الخالدة: لا إله إلا الله شعاراً للحياة وشعاراً للأمة الإسلامية، فلا توجد أمة من الأمم سواء ممن تنتسب إلى الأنبياء أو ممن لا تنتسب إليهم ترفع هذا الشعار، أو تطبقه في الحياة، أو تسعى إلى إعلاء هذه الكلمة في الأرض، وإنما تجد الأمم حتى ممن تنتسب إلى الأنبياء ترفع شعارات خاصة بها على خلاف ما أوصى به الأنبياء، وهذه الوصايا مسجلة عندهم، وأول هذه الوصايا جميعاً: أن يعبد الله وحده لا شريك له. فهذا موجود في وصايا موسى العشر كما هو في التوراة، وهي وصية المسيح كما في الإنجيل، وإنما يرفع هذه الكلمة بفضل الله عز وجل ويطبقها في الحياة أهل الإسلام الذين يتجهون من كل مكان إلى هذه البقاع الطاهرة، ويخرجون في اليوم الثامن قاصدين منىً ثم عرفات، ثم يفيضون بعد ذلك إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى، ثم إلى البيت العتيق مرة ثانية، قاصدين بذلك مرضات ربهم؛ لأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. ولقد قدر الله عز وجل أن يأتي إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام مع أمه ويتركهما في ذلك المكان، فتقول له هاجر : إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا أحد؟ وكأن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يكون؛ لذا لم يجبها إبراهيم، ولم يلتفت إليها، فكيف تظن به -وهو الرفيق الرحيم، الشفيق بالخلق- أن يكون قاسياً على ولده فلذة كبده! وعلى امرأته التي عاشرها وعاش معها ووحدت الله عز وجل على يديه؟! وكيف يمكن أن يظن به ذلك، وهو يدعو لمن عصاه بالمغفرة والرحمة؟!
|
|
|
من دعاء إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36] أي: الذين دعوا إلى عبادتها أضلوا كثيراً من الناس، وليست الأصنام نفسها تضل كثيراً من الناس، فهو يعتبر بحال الأكثر، وكان يخشى على نفسه وبنيه أن يقعوا فيما وقع فيه الناس، ولذا قال من قال من السلف: من يأمن البلاء بعد إبراهيم، أي: من يأمن أن يقع فيما حذر الله عز وجل منه من الشرك بعد أن دعا إبراهيم بالنجاة له ولبنيه منه، وقد استجاب الله عز وجل دعوته، فلم يكن أحد من بنيه وعصبته مشركاً، وإنما وقع الشرك في الأجيال التالية بعد عشرة قرون متتابعة، فانظر كيف تكون الدعوة مستمرة الأثر أجيالاً متتابعة. وكذلك أثرت هذه الدعوة في حياة البشر وفي هذه البقعة إلى يومنا هذا؛ فدعوة التوحيد هذه جددها النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها في الأرض كلها بعد أن كان الأنبياء يقومون بها في أقوامهم، فبعث عليه الصلاة والسلام إلى الأحمر والأسود، وأرسل أصحابه إلى المشارق والمغارب، وقام بذلك من بعدهم، وأمر أمته بالجهاد لإعلاء كلمة الله في كل مكان، فانظر كيف يكون أثر تلك الدعوة، فيقول إبراهيم: (( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ))، فمن أمن الشرك على نفسه فهو جاهل، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟! قال إبراهيم: (( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي )) وهذا هو النسب الحقيقي: اتباع إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال عز وجل: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] فإبراهيم أبو المؤمنين وإن لم يكونوا من نسبه، فهو أبوهم بالروح والقلب؛ لأن ولادة قلوبهم كانت بدعوته، والنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين، قال عز وجل: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6] وذلك لأن ولادة القلوب كانت على يديه صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ثمرة دعوة أبيه إبراهيم؛ إذ دعا ربه أن يبعث في ذريته رسولاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، وتوسل إلى الله بعزته وحكمته، فقال: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]. فكان محمد صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمه التي رأت أن نوراً خرج منها فأضاء قصور الشام، فكيف يكون الدعاء من أعظم وأمضى الأسلحة؟ الجواب: يكون عظيماً بحسب قرب الداعي من ربه عز وجل، وبحسب استعاذته بحول الله وقوته، فحينئذ يؤثر الدعاء تأثيراً عجيباً يمتد لآلاف السنين بقدرة الله سبحانه وتعالى. يقول إبراهيم عليه السلام: (( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))، فإذا كان إبراهيم يدعو لمن عصاه بأن يغفر الله له، ولا يغفر الله الشرك إلا بأن يتوب العبد منه، فإن من مات على الشرك وقد بلغته الحجة فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فقوله: (( وَمَنْ عَصَانِي )) تشمل من عصى الله عز وجل بالمعاصي التي هي دون الشرك، التي يكون الاستغفار مؤثراً فيها بإذن الله، وأما من أشرك فإبراهيم يدعو له بأن يتوب الله عليه، وهذا لمن لم يمت على الشرك، أما من مات عليه فإن إبراهيم يتبرأ منه، كما تبرأ من أبيهآزر ، قال تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]. فإبراهيم الأواه الحليم المنيب الذي جعل يطلب تأخير العذاب عن قوم لوط المجرمين والسفلة المنحطين، الذين فعلوا الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، واستهزءوا بنبيهم وأرادوا إيذاءه، ومع ذلك فإبراهيم يدعو لهم لشفقته ورحمته بالخلق والله يحب منه ذلك، حتى إنه دعا في بعض الأحيان لمن لا يستحق أن يغفر له، ولمن لا يستحق أن يؤخر عنه العذاب، وأمر الله نافذ فيه، لكن الله يحب الحلم والإنابة، ويحب الأواه -أي: كثير الدعاء- وإبراهيم كان كذلك. والله يحب هذه الصفات التي ترتب عليها هذا الدعاء، حتى وإن وقع في غير موضعه، فكيف يمكن أن يظن به ألا يكون شفيقاً رحمياً بولده وأم ولده؟! وذلك مما لا يتصور، فكيف تسأل هاجر وتقول: إلى من تتركنا؟ وكيف يمكنها أن تتصور أنه يتركهم إلى غير أحد؟ فتكرر السؤال، فيعلمها إبراهيم بأن السكوت أبلغ من الكلام فلا يلتفت إليها ولا يجيب عليها، وفي الثالثة تكرر السؤال وهو لا يجيب ولا يلتفت، فتنتبه بعد ذلك فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فهنا يجيب إبراهيم فيقول: نعم، وذلك أنه كان ينبغي أن تدرك هذا الأمر من البداية، وهذا هو الذي ينبغي أن يؤكد في النفوس، أي: أن نمتثل أمر الله، اقتداءً بإبراهيم عليه السلام حين لبى أمر ربه. والمؤمنون حين يلبون ويسمعون تلبية الحجاج: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، إنما يتبعون أنبياء الله عز وجل، ويجيبون الدعوة التي بلغها إبراهيم بأمر الله، كما قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] فنادى إبراهيم قائلاً: إن لله بيتاً فحجوه، وناداهم بغير مكبر صوت أو إذاعة تملأ إرسالاتها الكرة الأرضية، ومع ذلك كان لهذه الكلمة أثراً عجيباً في البشر عبر العصور، والأزمنة ما لا تؤثره كل الوسائل الأخرى، والناس اليوم عندهم من وسائل توصيل الكلمة إلى بقاع الأرض المختلفة ما تعلمون، أو ما يسمى: بوسائل الإرسال والاستقبال، ومع ذلك! فكم من ملايين الكلمات تذهب هدراً، ولم تذهب كلمة إبراهيم هدراً؛ وللوعد الذي جعله الله سبحانه وتعالى وعد صدق، حيث تكفل الله بإيصال هذه الدعوة؛ فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فكل من لبى في تلك اللحظة فسوف يذهب إلى هذه البقاع ملبياً مجيباً دعوة إبراهيم عليه السلام، فنحن نمتثل أمر الله عز وجل مهما كان في الظاهر شاقاً وصعباً، فهو اليسر في الحقيقة، وهو الراحة والطمأنينة والسكينة. تأمل هذه البقعة المجردة من أسباب الحياة بأسرها في ذلك الوقت، ومع ذلك يترك إبراهيم ولده وأم ولده، ويأخذ بأسباب لا تغني في حقيقة الأمر، وهي جراب تمر وقربة ماء، ثم يتركهم ويذهب إلى بيت المقدس في الشام، وهي مسافة في ذلك التاريخ تقضى في أكثر من شهر، ومع هذا يرحل إبراهيم ويتركهم لله عز وجل، وهنا ترضى هاجر وتقول حين تعلم أن هذا هو أمر الله: إذاً: لا يضيعنا، وهذه ثقة عظيمة بالله وتوكل عليه. ولك أن تقارن بين تلك اللحظات وبين اللحظات اليوم التي لا يوجد موضع قدم في تلك البقعة المباركة إلا وسكنت، إلا ما شاء الله عز وجل، فيرحل إبراهيم حتى إذا كان خلف الأكمة حيث لا يريانه يتوجه بهذا الدعاء: (( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ )). فإنما كانت هذه الرحلة والهجرة لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة، فهو يتوسل إلى الله بإظهار الفقر والحاجة، وذلك في قوله: (( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ )).
|
|
|
من الآيات البينات ماء زمزم التي نبعت على يد إسماعيل عندما رضيت هاجر عليها السلام بالله عز وجل مدبراً معيناً، وحافظا وكيلاً، وقالت: إذاً لا يضيعنا، وجعلت تأكل من جراب التمر وتشرب من الماء حتى نفد الماء والتمر وجاع ابنها، والله يقدر البلاء ثم يأتي الفرج، والفرج لا يأتي من البداية، وإنما يأتي بعد محنة فيها منحة عظيمة، وهكذا نبعت زمزم بعد المحنة التي تعرضت لها هاجر وابنها. يجوع إسماعيل وهو معد لأن يكون نبياً رسولاً صادق الوعد بانياً مع أبيه لبيت الله الحرام، ناشراً للتوحيد في قومه وفي ذريته من بعده أجيالاً متتابعة، ويقدر الله عليه أن يجوع طفلاً صغيراً، حتى كاد يهلك، فأخذ يبكي والأم تتألم؛ لأنها ترى ابنها يكاد يموت من الجوع والعطش وهي لا تدري ما الحل، فنظرت إلى أقرب جبل وهو جبل الصفا، فجعلت تأخذ بالأسباب وتصعد عليه تبحث لعلها تجد مغيثاً لهما، فتخرج فتصعد على الصفا وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى أحداً، فتنظر إلى أقرب جبل من الصفا فتجد جبل المروة فتتجه نحوه باحثة عن مغيث لهما -وفي بطن الوادي مسافة ممهدة الآن ميسرة بين العلمين الأخضرين- فأخذت تسعى سعي الإنسان المجهود، حتى إذا صعدت مشت، حتى أتت المروة فصعدت عليها -مع أن هذا الوقت تكون فيه الشمس حارقة، ولا يستطيع الإنسان السعي في هذا الوقت في عصرنا مع وجود الشراب والمكيفات، ومع ذلك تحملت هاجر عليها السلام هذه المحنة لتكون منحة لنا جميعاً في الوقوف في هذه الأماكن، متبعين هذه السنة في السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، كما فعلت بين الصفا والمروة، سعت بينهما هاجر عليها السلام، تبحث عن مخرج، فهي لا تستطيع أن ترى ابنها وهو يموت، حتى كانت المرة السابعة بعد الإجهاد التام والجهد الكامل، وبعد أن بذلت آخر الأسباب في النجاة، جاءت المنحة من عند الله تعالى. سمعت هاجر صوتاً فقالت لنفسها: صه، أي: تسكت نفسها، ثم قالت تخاطب من لا تدري أين هو لكنها تسمع صوته: أغث إن كان عندك غوث، فإذا هي بالملك جبريل عليه السلام عند ابنها الذي يتلوى جوعاً وعطشاً ويوشك على الهلاك، فيضرب جبريل الأرض بعقبه أو بجناحه فتنبع زمزم، فتفرح بالماء فرحاً عظيماً، ويدركها حرص الإنسان، فتقول لها: زم زم، وكانت لا تجد قطرة ماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل لو لم تقل لها: زم لكانت زمزم عيناً معيناً)، يعني: لو لم تجمع الماء ولو لم تجعل له حوضاً، لكانت زمزم عيناً ظاهرة ونهراً جارياً، فلا يحتاج إلى آلة رفع، لكن حرص الإنسان دائماً ينقص عطاؤه، ومع تعلقه بالأسباب ينقص رجاؤه، وبقدر نقص الرجاء، ينقص العطاء، وكلما انقطعت الأسباب وعظم الرجاء عظم العطاء، فكانت زمزم المباركة التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له)، وبقيأبو ذر رضي الله عنه أربعين يوماً وليلة لا طعام له ولا شراب في مكة إلا زمزم، قال: حتى سمنت وتكورت بطني. أي: صار سميناً وصار هناك ثنايا في بطنه من السمنة بزمزم فقط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها مباركة). نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
|
|
|
الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. عندما نبع ماء زمزم شربت أم إسماعيل من الماء ورضعت ابنها، وأتت قبيلة جرهم لتسكن بجوارهم؛ لأجل الماء الذي لم يكن موجوداً في هذا المكان، وكانت أم إسماعيل تحب الأنس فأنست بهم، واستجاب الله دعوة إبراهيم، ثم شب إسماعيل وتزوج منهم امرأة لم تكن تشكر نعمة الله عز وجل وتعرف قدرها، فأمره أبوه أن يطلقها وأن يستبدل غيرها خيراً منها. ورزقه الله سبحانه وتعالى امرأةً أخرى راضية، فدعا إبراهيم لهم بالبركة في اللحم والماء. ثم يأتي إبراهيم إلى إسماعيل ويقول: إن الله أمرني بأمر، قال: فافعل ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم، قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فبنيا بيت الله الحرام، وجعل إسماعيل ينقل الحجارة وإبراهيم يرفع البناء، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. أي: يبنيان لله بيتاً لعبادته وتوحيده ويخافان ألا يتقبل الله منهما، ولذلك دعوا بالقبول وردا علم نيتهما إلى الله، ودعاؤهما هو: (( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )). فمن الذي يجزم لنفسه بالإخلاص بعد ذلك، فيجب على العبد أن يعمل الصالحات ويرجو القبول من الغفور الشكور سبحانه وتعالى بفضله وعطائه ومنته، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين. وبني بيت الله الحرام، ونادى إبراهيم بالحج، وكانت هذه السنة الماضية في كل عام إلى يومنا هذا.
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق