الإمبراطورية الرومانية
لقد احتاج لقب Imperator الذي حمله أوغسطس وخلفاؤه إلى زمن طويل لكي يصبح معناه الرجل الذي يتربع على قمة الإمبراطورية، أي ما نسميهإمبراطوراً وكان أكثر تاريخ الإمبراطورية على هذه الصورة، مثلما حدث على عهد الجمهورية، أي أن المؤسسات والأفكار كانت تتغير رويداً رويداً وبطريقة غير ملحوظة على المدى القصير. في القرن الذي تلا موت أوغسطس جاء إلى العرش إثناء عشر إمبراطوراً، كان أول أربعة منهم أقرباء له ولعائلته، وآخرهمنيرون الذي مات في عام 68 ميلادي. ثم تفككت للتو في حرب أهلية، فنودي بأربعة أباطرة في عام واحدة. وبين هذا الأمر أنه عندما يعجز الإمبراطور عن تأمين انتقال السلطة إلى خليفته بصورة سلمية فإن السلطة الحقيقية تكون بيد الجيش، كما حدث في العام الذي يسمى "عام الأباطرة الأربعة". وربما كان هناك أكثر من جيش واحد في المعادلة، لأن حاميات المقاطعات قد تؤيد عدة مرشحين مختلفين، وقد تكون الكلمة الأخيرة أحياناً للحرس الإمبراطوري الشخصي في روما نفسها لأنه في مسرح الأحداث. وقد بقي مجلس الشيوخ يعين القاضي الأول في الجمهورية ولكن لم يكن بمقدوره إلا أن يعمل عن طريق المناورة وحبك المكائد، ولم يكن بقادر على هزم الجيش في المحصلة. أما الأباطرة فكانت صفاتهم وكفاءاتهم الشخصية تحدد ما يقدرون على فعله، بشرط أن يحافظوا على ولاء الجيش.
وظهر في النهاية إمبراطور صالح من عام الأباطرة الأربعة، هو فسبسيانس، الذي كان أسوأ عيوبه البخل. لم يكن فسبسيانس أرستقراطياً رومانياً، بل كان جده قائد مئة ثم أصبح جابي ضرائب، ولكنه كان عسكرياً بارزاً. وبات من الواضح أن العائلات الرومانية القديمة قد فقدت قبضتها على السلطة، إلا أن عائلة فسبسيانس -أي العائلة الفلافية- قد عجزت عن الحفاظ على الخلافة الوراثية لفترة طويلة، فعاد أباطرة القرن الثاني إلى الحل الذي ابتدأه أغسطس، أي تبني ورثة العرش. وجاء أربعة من هؤلاء هم ”الأباطرة الأنطونيون” الذي أمنوا للإمبراطورية قرناً كاملاً تقريباً من الحكم الصالح والهادئ، بدا للعصور اللاحقة عصراً ذهبياً، وكان ثلاثة منهم إسبانيين وواحد إغريقي، أي أن الإمبراطورية لم تعد بيد الإيطاليين.
كانت الإمبراطورية عالمية في قمتها إذاً كما تدل أصول هؤلاء الأباطرة، وفي قاعدتها أيضاً ما برحت تحطم الحواجز بين الشعوب. واستمرت عملية رومنة العائلات القائدة في المقاطعات باطراد، فتعلم شباب الغاليين والسوريين والأفارقة والإلبريين اللغتين اليونانية واللاتينية، وكانوا يرتدون ألبسة مثل ألبسة الرومان ويربون على الافتخار بالتراث الروماني. وكان الموظفون المدنيون والجيش يحافظون على سير الأمور ويحترمون مشاعر الناس في المناطق المختلفة من الإمبراطورية طالما أن الضرائب تدفع بانتظام، وعندما صدر في عام 212 م مرسوم يقضي بمنح حقوق المواطنة لجميع الرعايا الأحرار في الإمبراطورية، كان هذه هي النتيجة المنطقية لعملية الاندماج الطويلة. وحتى مجلس الشيوخ كان بعض أعضائه في ذلك الحين غير مولودين في إيطاليا، ولم تعد صفة روماني تدل على الولادة في مكان معين بل على الانتماء إلى حضارة معينة.
الإمبراطورية الرومانية في العام 117 الميلادي.
لقد ازدادت مكانة الأباطرة، أو مكانة منصبهم على الأقل، وصاروا يبتعدون عن صورة القاضي الأول ويزدادون تشبثاً بالملوك الشرقيين، الذي يعتبرون من طينة مختلفة عن طينة رعاياهم. وساهمت في هذا عادة تأليه الإمبراطور بعد موته. فقد أله كل من يوليوس قيصر وأوغسطس من بعد موتهما، ولكن منذدوميتيانس وهو ابن قسبسيانس صار الأباطرة يؤلهون أثناء حياتهم، كما أن المذابح التي كانت تقدم عليها القرابين للجمهورية أو لمجلس الشيوخ باتت تكرس للإمبراطور فقط، خاصة في الشرق.
الميراث الروماني
حتى الذين أسفوا على تلك التغيرات لم يكن بإمكانهم أن ينكروا أن الإمبراطورية كانت إنجازاً مدهشاً يحق للرومان أن يفتخروا به. فقد أمن الرومان حكماً منظماً وقانونياً لأوسع رقعة عرفها العالم حتى ذلك الزمان، وكانت تضم شعوباً سوداء وبيضاء وسمراء وكلها رومانية على قدم المساواة، كما ضمنوا لها نعم السلام والازدهار أيضاً، وهذه كلها إنجازات لا سابق لها، وهي أفضل حجة تسمح لنا أن نقول إن الرومان قد أتوا بأشياء عظيمة حقاً. من الناحية الملموسة خلفوا صروحاً وأبنية وأعمالاً هندسية كبيرة، وبعد قرون عديدة سوف يظن الناس أن آثارهم قد بناها عمالقة وسحرة في الماضي البعيد من شدة انبهارهم بها، كما أن أحد علماء الآثار الإنكليز في القرن السابع عشر قال إن آثار ستونهنج* هي معبد روماني، لأنهم وحدهم قادرون على الإتيان بشيء بهذه العظمة. وقد كان مخطئاً هو الآخر، ولكن هذه الأخطاء طبيعية ولها دلالات هامة. إن ما خلفه الرومان في القرميد والصخر والإسمنت كان باهراً ولا مثيل له في أوروبا الغربية، والكثير منه بني لأغراض عملية جداً. ولم يكون يجوز لفيلق ما أن يعسكر ولو لليلة واحدة إلا بعد أن يضع مخططاً جيداً لمعسكره ويحفر له الخنادق ويبني المتاريس للدفاع عنه، ولهذا اكتسب الجيش قدراً كبيرة من الخبرة في أمور المساحة والهندسة والبناء. إلا أن أكثر الأبنية الرومانية كانت في المدن، لأن الرومان كانوا يعيشون في حضارة مدنية، وفي كافة أنحاء الإمبراطورية كانت الأبنية والصروح العامة شواهد على ما يعتبرونه لائقاً بالحياة المتحضرة. ومن أجل تخديم تلك المدن بنوا طرقاً تربطها فيما بينها، وزودوها بمسارح الألعاب والحمامات ومصارف المياه والماء العذب لجعلها مريحة. وكانوا يحبون الفخامة والأبهة، ورغم أنهم صنعوا بعض الأشياء الفظة والغليظة، فقد كانوا أشخاصاً عمليين لذلك لم يبنوا أشياء بلا فائدة مثل الأهرام، ومع هذا كانت بعض مدافنهم فاخرة جداً، وبعد قرون عديدة سوف يصبح مدفن الإمبراطور هادريانس قلعة سان أنجلو.
لقد استخدم الرومان تقنية فعالة جداً ولكنها لم تكن بجديدة، وكانت بكراتهم أفضل من بكرات المصريين، وكانوا يستخدمون رافعات وأدوات حديدية لم يعرفها بناة الأهرام، ولكنهم لم يخترعوا أشياء هامة قياساً بالإغريق. كانوا يستخدمون أنواعاً كثيرة من المواد، ولكن أكثرها كانت موجودة قبلهم، ماعدا الإسمنت الذي اخترعوه هم، وقد مكن الإسمنت من تشييد الأبنية بأشكال جديدة، وكان الرومان أول معماريين تخلصوا من الحاجة لرفع الأسقف العريضة على صفوف من الأعمدة، لأنهم اخترعوا القبة المحمولة على قناطر.
من أكثر أعمالهم ظهوراً لنا الآن هي الطرق، التي مازالت في بعض الأحيان صالحة للنقل، وحتى عندما زالت كانت الطرق الجديدة تبنى فوق مواقعها. وكان هناك فيلق خاص من المساحين يرعى تلك المهارات التي مكنت من بلوغ هذه الدقة المدهشة في عبور الهضاب والوديان على خط مستقيم، وكانت تبنيها الفيالق في العادة، وهي التي أمنت للإمبراطورية وسائل الاتصال التي مكنت من حكم هذه الرقعة الكبيرة من العالم. وإن سرعة نقل الرسائل والبضائع عن طريق البر لم تتحسن منذ عصر القياصرة حتى عصر القطار بل إن الاتصالات كانت تتراجع في بعض الأماكن خلال الألف سنة التالية عندما لا تصان الطرق الرومانية.
لقد أخذ البناؤون الأوروبيون في عصور لاحقة كميات هائلة من الأحجار المقصوصة الجاهزة من الآثار الرومانية، لذلك صار من الصعب علينا أن نتخيل مدى روعة الإمبراطورية في أيامها. ومازالت هناك بعض الصروح العظيمة التي تقف منفردة، مثل جسر بون دوغار في جنوب فرنسا، ومسرح الألعاب في مدينة نيم القريبة منه، والبوابة السوداء في ترير بألمانيا، وقناة جر المياه التي مازالت تروي مدينة سغوفيا الإسبانية، ومجمع الحمامات في بات بإنكلترا، أما في مدينة بومبيي بإيطاليات فتجد مدينة محفوظة بأكملها، كما تجد بقايا أخرى في أماكن كثيرة في كافة أرجاء أوروبا والشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وأهم ما بقي هو الآثار المدهشة في روما نفسها عاصمة الإمبراطورية.
كان الرومان يفتخرون بأنهم أقوياء أشداء، ولكنهم كانوا يحبون الراحة أيضاً، وكانوا أحياناً يغالون في الانغماس بالملذات كما تدل لوائح الأطعمة والأشربة التي كانت تقدم في ولائم الأغنياء عندما كانت موضة دارجة، ولكن يحق لنا أن نعجب باهتمامهم بالاستحمام والتدفئة المركزية، وفقد كانوا ذوي مهارة كبيرة في كافة أمور السباكة والتمديدات الصحية، وكانت هناك قنوات محكمة تجلب ماء الشرب إلى المدن التي تجد فيها الحمامات والمراحيض العامة. أما في البيوت الخاصة فكنت تجد غرف البخار وغرف المعيشة المدفأة تدفئة مركزية من تحت الأرض، ولم يعتد سكان بريطانيا على ضرورة تدفئة المنازل بصورة كافية بعدها حتى القرن العشرين.
أما عدا عن مجالي الهندسة والهيدروليك (علم حركة السوائل) فكانت ابتكارات الرومان قليلة، وهم لم يساهموا مساهمة كبيرة في العلوم البحتة. في مجال الزراعة بدؤوا يدخلون استخدام الطواحين المائية في نهاية الأزمنة الإمبراطورية، أما الطواحين الهوائية فلم تكن قد ظهرت بعد، وبقيت عضلات الحيوان والإنسان هي المصدر الأساسي للطاقة. كثيراً ما قيل إن توفر أعداد كبيرة من العبيد لم يخلق عند الرومان الحاجة لاختراع آلات تقوم بعمل البشر، وقد يكون في هذا شيء من الصحة، ولكن هناك تفاسير أخرى محتملة، فقد استمرت مشكلة تحويل الفكرة الجيدة إلى اختراع عملي بسبب وضع التقنية، كما أن تاريخ الإمبراطورية صار يجبر العزب الريفية على أن تكون مكتفية بذاتها، فباتت تعيش على ما تنتجه بنفسها ولم تجرب أشياء جديدة. وأخيرا ً لم يكن هناك أي حافز من الخارج، لأن الصين الغنية بالمهارات التقنية كانت بعيدة للغاية، وجيران روما القريبين لم يكن لديهم شيء هام يشكل تحدياً وحافزاً لها.
يبدو أن أكثر نشاط فكري حاز على إعجاب الرومان هو مجال عملي أيضاً، ألا وهو القانون وفن الخطابة الملازم له، ولم ينشأ في بيئة روما فلاسفة مثل فلاسفة اليونان الكلاسيكية، ولا في أي حضارة أخرى كالصين أو الهند مثلاً، وحتى الفلاسفة الهلنستيون كانوا أقل أصالة من المفكرين الإغريق الذي سبقوهم بالرغم من هذا تجد في الثقافة الرومانية بعض الممثلين الجيدين للفلسفة الرواقية، وبعض المؤرخين الهامين، وكوكبة من كتاب النثر والشعر اللاتيني، منهم فرجيل شاعر الملاحم، وهو بلا شك شخصية عملاقة حتى في الأدب العالمي.
من السهل أن نستخف بإنجازات الرومان الفكرية قياساً إلى إنجازات اليونان، ولا ننس أن إنتاج هذا السيل المتصل من الرجال ذوي الكفاءات الشاملة طوال قرون يدل على اعتماد ثقافة الرومان على الأفكار المحافظة، وقد كان للتقاليد الإغريقية دور كبير في ذلك. كان السياسيون الرومان الذي يصلون إلى أعلى المراتب يمرون بمناصب عديدة كإداريين وقادة عسكريين ومشرفين على البناء والأشغال الهندسية ومحامين وقضاة، وقد استطاعت روما أن تقدم فيضاً لا ينقطع من الرجال القادرين على هذه الأشياء كلها. كما أن الإمبراطورية نفسها كانت متسامحة وعالمية، فحتى عقيدة ثورية مثل المسيحية بكل ما تحمل من بذور الانقلاب للمستقبل أمكنها أن تضرب جذورها وتزدهر، وكانت الإمبراطورية على درجة هامة من التطور الفكري أيضاً، وإن الإمبراطورية المسيحية اللاحقة هي التي لجأت إلى محاكمة الناس بتهم التجديف.
المسيحية والإمبراطورية
وسرعان ما ظهرت الجماعات المسيحية في كافة أرجاء العالم الروماني، وكان الجميع يعترفون بأن مسيحيي أورشليم، حيث عاش أول جيل عرف المسيح وسمعه من قادة الكنيسة، يستحقون توقيراً خاصاً. وكانت الروابط الوحيدة التي تجمع بين جميع المسيحيين هي طقس التعميد، وهو علامة القبول في الدين الجديد، وإيمانهم بأن المسيح قد قام من بين الأموات، وطقس الإفخارستياوهي الخدمة الخاصة التي تمثل وتحيي ذكرى آخر وجبة تناولها المسيح مع تلاميذه عشية اعتقاله ومحاكمته وصلبه. كان أكثر المسيحيين يؤمنون أيضاً أن نهاية العالم أمست على الأبواب، وأن يسوع سوف يعود قريباً لكي يجمع المؤمنين به، ويضمن لهم الخلاص في الدينونة الأخيرة. وبناء على ذلك لم يكن ثمة ما يفعله المرء على هذه الأرض سوى أن يترقب ويصلي، ولهذا لم تكن إدارة الكنائس عملاً معقداً. ولكن كانت هناك قرارات إدارية لابد من اتخاذها بسبب زيادة أعداد المؤمنين وأموالهم، فظهر رجال إداريون يسمون أساقفة وشمامسة، وبمرور الزمن سوف يتخذون أدواراً كهنوتية أكثر ويزداد اهتمامهم بقيادة العبادة ومسائل اللاهوت فضلاً عن شؤون الإدارة.
كان أول تغير كبير هو انفصال المسيحية عن اليهودية، صحيح أن المسيحية لم تتخل قط عن ميراث التوحيد اليهودي، ولا عن كتب العهد القديم من الكتاب المقدس، ولا عن النظرة إلى مصير الإنسان كامتداد لرحلة الحج الطويلة لشعب مختار عبر التاريخ، وصحيح أن الثقافة المسيحية مازالت حتى اليوم مشبعة بالأفكار والصور المأخوذة من الماضي اليهودي، إلا أنها بالرغم من ذلك قد انفصلت عن المجتمع اليهودي والأمة اليهودية. كان الرومان في البداية يعتبرون المسيحيين طائفة من الطوائف اليهودية، ولكن نمو الكنائس غير اليهودية جعلهم متميزين، وعجز المسيحيون اليهود عن إقناع اليهود الآخرين باعتناق نظرتهم بأن المسيح الذي ينتظره شعبه منذ زمن طويل قد جاء في يسوع، ولا يمكن أن يكونوا استمروا في حضور اجتماعات الكنيس إذ كان من المعروف أنهم يتناولون الطعام في وجبات عامة مع أشخاص غير يهود وغير مختونين ويأكلون لحم الخنزير ولا يراعون النواحي الأخرى للشريعة اليهودية.
وقد حصلت نقطة تحول أخرى هامة عندما ثار اليهود ثورتهم الكبرى ضد الرومان في فلسطين في عام 66 م وكان قائد الجيش في المنطقة في ذلك الحين هو إمبراطور المستقبل فسبسيانس وكانت هذه أسوأ ثورات اليهود التي اضطر الرومان للسيطرة عليها، فبعد سبع سنوات من الاقتتال وصلت المجاعة بأهل أورشليم إلى حد أكل لحوم البشر لكي يبقوا على الحياة، ودمر الهيكل الذي أعيد بناؤه بعد العودة من السبي، وفضلت القوات اليهودية الأخيرة أن تنتحر انتحاراً جماعياً على أن تسلم معقلها في مسادة في عام 73 م. أما المسيحيون فلم يشاركوا في هذه الثورة، وربما خفف هذا من ارتياب السلطات الرومانية بهم، ولكن اليهود الآخرين خارج فلسطين لم يشاركوا بها أيضاً، لهذا تركوا وشأنهم تحت حكم سلطاتهم الدينية الخاصة، أما أورشليم فقد أخذت من اليهود بعد الثورة وجعل منها هادريانس مستوطنة إيطالية في عام 135 م وأقصى جميع اليهود عن المنطقة اليهودية، إلا أن هذه الثورة وعواقبها قد زادت الشعب اليهودي وعياً لذاته واعتماداً على التقيد الصارم بالشريعة، لأن الهيكل قد زال من الوجود، وزاد هذه الأمر من صعوبة وضع المسيحيين اليهود.
كان اليهود أول من اضطهد المسيحيين، فهم الذين طالبوا بصلب المسيح، كما أنهم قتلوا أول شهداء المسيحيين القديس اسطفانس وسببوا للقديسبولس أشد المحن العصيبة في حياته، ويقول بعض العلماء إن يهود روما جعلوا من المسيحيين أكباش فداء بأن اتهموهم بتسبب الحريق الكبير الذي اندلع في المدينة عام 64 م، فجلبوا عليهم أول اضطهاد روماني، وهو الذي تقول الأسطورة إن القديسين بطرس وبولس قد هلكا فيه. ولا ريب أن عدداً كبيراً من المسيحيين ماتوا ميتة فظيعة في ميدان الألعاب أو أحرقوا أحياء، ولكن هذه الأحداث الرهيبة كانت محلية وغير شائعة، بل يبدو أن المسيحيين ظلوا يتمتعون عادة بالتسامح الرسمي حتى وقت متقدم من القرن الثاني الميلادي، أما الناس فكانوا يرتابون بهم ويلفقون عليهم القصص، فيقولون إنهم يمارسون السحر الأسود، وأكل لحوم البشر، وسفاح القربى، وكان بعض الرومان يكرهون أفكارهم التي تشجعهم على اعتبار أنفسهم مساوين لسادتهم في نظر الله، وبالتالي على مقاومة السلطة التقليدية للزوج على زوجته وللوالدين على أبنائهما والسيد على عبيده. ومن الطبيعي أن يعتبر المؤمنون بالخرافات أن المسيحيين هم سبب الكوارث الطبيعية، فكانوا يقولون إن الآلهة القديمة أغضبها التسامح مع المسيحيين فصارت ترسل المجاعات والفيضانات والأوبئة، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً في الإدارة، ولم تدخل السلطة صراعاً رسمياً ضد المسيحية إلا في القرن الثاني.
اضطهاد المسيحية وتطورها
لقد تبين في ذلك الحين أن بعض المسيحيين يرفضون تقديم القرابين للإمبراطور والآلهة الرومانية، وكان اليهود أيضاً يرفضون القيام بهذا، ولكن الرومان كانوا يقبلونه منهم ويعتبرونهم شعباً متميزاً له عاداته التي يجب احترامها. أما المسيحيون فإن أكثرهم لم يعودوا يهوداً ، فلماذا لا يقومون إذاً بأعمال التوقير الرسمي هذه مثل غيرهم؟ وبالتالي فقد أدينوا لا لأنهم مسيحيون بل لأنهم رفضوا القيام بشيء يأمر به القانون. ولاريب أن هذا الأمر قد حرض على الاضطهاد على المستوى غير الرسمي، فظهرت المذابح والمضايقات بحق المسيحيين في القرن الثاني في أنحاء كثيرة من الإمبراطورية خاصة في غاليا.
إلا أن هذا القرن كان أيضاً قرن تقدم بالنسبة للكنيسة، وفي هذا العصر ظهر أول آباء الكنيسة، وهم شخصيات كبيرة من علماء اللاهوت والإداريين، وضعوا الخطوط الأساسية للعقيدة المسيحية من أجل أن يميزوها بوضوح عن العقائد الأخرى ويحددوا واجبات المسيحيين ووظائفهم. ومن هؤلاء الآباء اثنان كانا على أهمية خاصة بسبب الطريقة التي حاولا بها ربط المسيحية بالأفكار الإغريقية، فساهما بالتالي في فصل المسيحية عن غيرها من العبادات الشرقية الكثيرة، وهما القديس اكليمنضس الإسكندري، وتلميذه أوريجنس. لقد كانت منجزات الآباء الفكرية والمعنوية عظيمة، وقد ساعدتهم بعض تيارات ذلك العصر، إذ كان البحث جارياً عن أساليب جديدة في الدين في كافة أرجاء العالم الروماني في القرن الثاني، فاستفادت المسيحية من هذا، كما أن الأفكار الجديدة كانت تنتشر بسرعة في عالم يضمه القانون والنظام الرومانيان، ويستطيع الناس فيه أن يسافروا بحرية ويجدوا أشخاصاً يتحدثون اللغة اليونانية في كل بقعة منه.
عند نهاية القرن الثالث ربما كان حوالي عشر عدد السكان في الإمبراطورية مسيحيين، وكان قد جاء إمبراطور مسيحي أيضاً بالاسم على الأقل، كما يبدو أن هناك إمبراطوراً آخراً قد ضم يسوع المسيح إلى الآلهة التي يعبدها في مسكنه. وفي أماكن كثيرة صارت السلطات المحلية تألف التعامل الرسمي مع الزعماء المسيحيين المحليين، الذين كثيراً ما كانوا رجالاً بارزين في جماعاتهم، ويلعبون كأساقفة دوراً كبيراً في إدارة شؤونها وفي تمثيلها. ولقد كانت لدى الإمبراطورية هموم أخرى أولى من هذه الديانة التي لا يسعى أفرادها لتسبب المتاعب.
فرثية وفارس
منذ عام 92 ق.م كان جيش روماني قد وصل إلى نهر الفرات، وللمرة الأولى صارت الجمهورية على اتصال مباشر بالفرثيين، وهم شعب سوف يلعب دوراً هاماً في شؤون الرومان طوال القرون الثلاثة التالية. وهذا ما حدث بعد حوالي أربعين سنة عندما غزا جيش روماني بلاد الرافدين، فمحي خلال أسابيع قليلة عن بكرة أبيه في واحدة من أبشع الكوارث العسكرية في التاريخ الروماني، وبات من الواضح أن الفرثيين شعب لا يسهل التدخل في شؤونه. كانالفرثيون شعباً آخر من تلك الشعوب الهندية الأوروبية البدوية الأصل الآتية من آسيا الوسطى، وكانوا مشهورين بطريقتهم في القتال، فكانوا يتظاهرون بالفرار ثم يستديرون بسروجهم لإطلاق السهام نحو من على ظهور الخيل وهي تجري، ومن هنا أتت الرمية الفرثية. وكانوا قد اختاروا الاستقرار في جنوب شرقي بحر قزوين، في منطقة صارت تعبرها بعد ذلك طريق هامة للقوافل من الصين إلى بلاد الشام وهي طريق الحرير، وسوف تجلب هذه الطريق الثروة للملوك الفرثيين في المستقبل. وكانوا يعيشون هناك تحت حكم الفرس أولاً ثم تحت حكم السلوقيين، إلى أن ضاق الحاكم الفرثي المحلي في منتصف القرن الثالث ق.م بحكم الأخيرين وقرر أن يخلع نيرهم، فكانت تلك بداية المملكة الفرثية المستقلة التي سوف تستمر حوالي خمسمائة عام. في إحدى مراحلها في القرن التالي كانت الإمبراطورية الفرثية تمتد من بلخ* في الشرق حتى بابل والفرات الذي يفصلها عن سوريا في الغرب أي كل ما بقي في ذلك الحين من المملكة السلوقية وحتى أباطرة الصين ارتأوا أن يفتتحوا معها علاقات دبلوماسية وربما كان من أسباب ذلك شهرة الخيول الفرثيةالبديعة التي كان الصينيون يقدرونها أيما تقدير. وكان الملوك الفرثيون يسمون أنفسهم على قطع نقودهم الملك العظيم أو ملك الملوك وهي ألقاب تقليدية لحكام فارس، وكانوا يدعون أنهم ورثة سلطة الأخمينيين. ولكن فرثيةلم تكن في أيامها الأولى دولة مركزية منظمة على الأرجح، بل كانت أشبه بتحالف من النبلاء الكبار الذين يأتون بالفرق العسكرية المكونة من أتباعهم ليضموها إلى جيش سيدهم. وعندما واجه الرومان جيشهم كان هذا قوة حربية مخيفة، فعدا عن خيالته رماة السهام المشهورين كان فيه سلاح غير موجود عند الرومان هو سلاح الخيالة المدرعين بدروع ثقيلة، والذين يمتطون خيولاً مغطاة هي أيضاً بدروع ذات زرد.
لقد ظلت روما وفرثية تتنازعان على أرمينيا زمناً طويلاً ، وهي مملكة حدودية إلى الشرق من الأناضول كان كل منهما يعتبرها ضمن مجاله، واستمرت الصراعات سجالاًً بينهما، مرة ينتصر هذا ومرة ذاك، وفي إحدى المرات احتل جيش روماني العاصمة الفرثية، إلا أن الحدود لم تتغير كثيراً. كانت منطقة النزاع هذه بعيدة جداً عن روما، لذلك لم يكن بإمكانها أن تتمسك بفتوحاتها هناك إلا بمجهود كبير ومصاريف باهظة، كما أن مشاكل الملوك الفرثيين في بلادهم كانت تشغلهم وتمنعهم من طرد خطر الرومان من آسيا بشكل كامل. وفي حوالي عام 225 م قتل آخرملك فرثي على يد حاكم فارس الذي كان تابعاً له، وهذا الرجل الذي أطاح به اسمه أردشير وسوف يحيي أحفاده عظمةالأخمينيين وأبهتهم من جديد، ويعيدون السيادة الفارسية إلى قسم كبير من الشرق الأدنى.
كان تلك الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي سميت على اسم ساسانأحد أجداد أردشير والتي سوف تصبح ألد أعداء روما. لقد سعى حكام ساسان للتشديد على استمرارية الماضية، فاتخذوا الألقاب الملكية الفارسية التقليدية والديانة الزردشتية، كما أن أردشير ادعى الحق بكل الأراضي التي كان يحكمها داريوس أعظم الأخمينيين. وكانت تقاليد الإدارة الساسانية تعود لزمان أبعد من هذا أي إلى آشور وبابل، وكان ادعاء الملك بالسلطة الإلهية، إلا أن هذه الإدعاءات لم تسلم من النزاع، فقد حصلت صراعات بين الملكية وكبرى أسر النبلاء التي ادعت التحدر من الزعماء الفرثيين القدامى الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بالسلطة في أيديهم. ولكن في النهاية وبعد قرون من الصراع، سوف تعيش الإمبراطورية الساساينة فعلياً حياة أطول من حياة الإمبراطورية الرومانية، وقد زاد من خطرها أنها ظهرت في وقت كانت روما فيه مكبلة بالأخطار في أماكن أخرى وبالاضطراب في شؤونها الداخلية، وبقي الوضع دوماً على هذه الصورة. فقد جاء مثلاً بين عامي 226-379 م خمسة وثلاثون إمبراطورياً رومانياً، بينما لم يحكم في فارس إلى تسعة ملوك ساسانيين، وكان لفترات الحكم الطويلة هذه والاستقرار الملازم لها ميزات كبيرة. ربما كانشابور الأول (241-272) م أبرز ملوك الساسانيين على الأقل حتى نهاية سلالته، وقد أسر ذات مرة إمبراطوراً رومانياً هو فاليريانس المسكين الذي يقال أن الفرس سلخوا جلده حياً وحشوه، ولكن قد لاتكون هذه الرواية صحيحة. كما أن شابور فتح أرمينيا وغزا مقاطعتي سوريا وكبدوقية الرومانيتين في مناسبات عديدة. وقد مرة بعد ذلك فترات طويلة من السلام بين روما وفارس، إلا أن هاتين القوتين الكبيرتين لم تتمكنا من التعايش الهادئ قط.
كانت الإمبراطورية الرومانية قد بلغت أقصى مداها قبل هذا بزمن طويل، وعندما مات الإمبراطور ترايانس – تراجان في عام 117م. وكانت تغطي في ذلك الحين مساحة تبلغ حوالي نصف مساحة الولايات المتحدة الحالية، وكانت أراضيها تمتد من شمال غربي إسبانيا حتى الخليج الفارسي. وكان أرمينيا قد ضمت في عام 114 م، فوصل هذا بحدود روما إلى بحر قزوين في الشمال الشرقي، وكانت مقاطعة داسيا الكبيرة إلى الشمال من الدانوب قد فتحت قبل ذلك ببضع سنوات.
صحيح أنهم اضطروا للتخلي عن بعض تلك الأراضي فور احتلالها، خاصة الواقعة وراء الفرات، ولكن هذه الرقعة الواسعة كانت مصدر مشاكل أمنية هائلة حتى من دونها. ورغم أنها لم تكن هناك قوة كبرى تهدد روما إلا في الشرق وهي دولة مثل روما قادرة على حشد الجيوش الكبرى في ميادين القتال وتنفيذ الخطط الدبلوماسية والإستراتيجية طويلة الأمد، فإن المشاكل في المناطق الأخرى باتت أعصى عن المعالجة بمرور الزمن. وربما كانت أفريقيا هي المكان الوحيد الذي بقيت فيه الأمور هادئة بعد ضم موريتانيا في عام 42 م، إذ لم يكن لروما هناك جيران ذو شأن، ولم تكن فيها مجموعات سكانية هامة خلف حدود الحكم الروماني مباشرة، حيث لاشيء سوى الصحراء الممتدة بلا نهاية.